ورث المجتمع العباسي كل ما كان في المجتمع الساساني الفارسي من ادواة اللهو والمجون – – وقد ساعد على ذلك ما دفعت اليه الثورة العباسية من حرية مسرفة، فاذا الفرس يمعنون في مجونهم، ويعبون الخمر عبا ويزقون كؤسها زقا، واصفين الشراب في لون الزعفران، فهو اصفى من وصال المعشوق واطيب ريحا من نسيم المحبوب.
وكان الامين، الخليفة العباسي، شغوفا بالخمرة، يشربها ارطالا. وكأنما كان في قلبه جذوة من الغرام بها لا سبيل الى اطفائها الا بشربها متتابعا، حتى يصل مساءه فيها بصباحه – – – غير مفكر في وقار خلافة ولا في دين.
لهذا صارت حياة الفسق و الفجور و الأدمان على الخمرة، ظاهرة اجتماعية عامة. ومما ساعد على ذلك فتوى زمرة من وعاظ السلاطين على تجويز بعض انواعها، رغم وجود نص النهي في القرأن الكريم.
لقد انتشر في المجتمع العباسي مظاهر التألق والتأنق في الأزياء والزيارات ومراسيم القبول واداب المائدة، كما سرى بين النساء ولعهن بالعطور النادرة، كعطر البنفسج و الياسمين والمسك والكافور , يأنسن بطيب عبيرها، يتبخترن بشذى عبقها الفواح و يتمسحن بدهن بالزعفران من مفرقهن الى القدم، كما كانت بيوتهن تزيين بالورد والرياحين فكانت احلى دلالة لمعاني الود والوداد مثلما كانت باعثا لألهام الشعراء بمشاعر الخصب و الخيال.
كانت قصور الخلفاء واغنياء القوم مزدانة بحدائق الورد، التي اعطت للشعراء معاني غزلية عميقة، كالسلوى في الحب اوالدنو منه، وكذلك في الاتصال بالحبيب وجفاءه، كأن الشاعر يحس في الوردة الحمراء، معنى الخجل، كما يشعر آخر في هجرالحبيب في سرعة ذبوله، او يتصور العاشق في ورد البنفسج عودة الوصال وحرارته. ولهذا بالغوا في التهادي بالزهور والرياحين دالين بها على امثال تلك المعاني، كما كان المحبون يحيّيون بالورد بعضهم بعضا.
كذلك كثرت التحية عندهم بالتهادي بالتفاح، فكانت الجارية تترك اثر اخذها بفمها على تفاحة، تشققها وتعطرها بالمسك والعنبر، وقد تكتب عليها بيتا تدل به على لوعتها وتحرقها للقاء العاشق، ولسان حالها يقول:
وآثار وصل في هواك حفظتها * تحيات ريحان وعضات تفاح
و عندما اهدت جارية الى المهدي تفاحة، كتبت عليها :
هدية مني الى المهدي * تفاحة تقطف من خدي
محمرة مصفرة طُيّبت * كأنها من جنة الخلد
كانت النساء من اهل الهوى يكتبن ابياتا من الحب الرقيق على ثيابهن ومناديلهن ووسائدهن. فكانت عريب مغنية القصر مثلا تلبس قميصا كُتب على وشاحه:
واني لأهواه مسيئا ومحسنا * وافضي على قلبي له بالذي يقضي
فحتى متى روح الرضا لا ينالني * وحتى متى ايام سخطك لا تمضي
ويذكر اسحاق الموصلي انه دخل على الامين يوما فوجد من حوله وصائف يختلن في حسنهن، وبايديهم مراوح نقشت عليها ابيات غزل، منها:
أتهوون الحياة بلا جنون * فكفّوا عن ملاحقة العيون
كانت الجواري يتنافسن في تقديم التحف الجميلة، حيث كن قد تزودن بثقافة العصر، اذ كان منهن من ينظم الشعر نظما بديعا، ويتقن فن الرقص المثير والغناء الجميل مما يرفع من مستواهن الفني درجات، كعريب، جارية المتوكل، ودنانير، جارية البرامكة.
كان الناس في المجتمع العباسي يعشقون الغناء الرخيم, فقد اقترنت موسيقى الطرب عندهم برقة عواطفهم وخلجات نفوسهم , حتى غدت نعيمهم المفضل , تثير فيهم البهجة والسرور الى حد كانوا يستقبلون سحر الألحان بالدموع .
كان ابراهيم الموصلي ابرز المغنين يومذاك، يمتلك صوتا عذبا في الغناء، تتهاوى الجماهير عليه و تبكي لجمال غنائه ورقته.
لهذا كثرت مجالس الأنس والطرب في كل مكان، وكان الشعراء يغذون هذه المجالس بقصائدهم من امثال مسلم بن وليد اذ يقول :
ان كنت تسقيني غير الراح فأسقيني * كأسا الذ بها من فيك تشفيني
عيناك راحي وريحاني حديثك لي * ولون خدك لون الورد يكفيني
وابن بردي : يا ساقيا خصني بما تهواه * لا تمزج اقداحي رعاك الله
دعها صرفا فأنني امزجها * اذ اشربها بذكر من اهواه
و مطيع بن الياس : اخلع عذارك في الهوى * واشرب معتقة الدنان
لا يلهينك غير ما تهوى * فأن العمر فان
و الشاعر البصير بشار يقول : حوراء ان نظرت اليك * سقتك بالعينين خمرا
و ابوتمام في الخمرة : جهنمية الأوصاف الا انهم * وصفوها بجوهر الأشياء
و ابو نؤاس، الا فأسقني خمرا وقل لي هي الخمر * ولا تسقني سرا ان امكن الجهر
وبح بأسم من تهوى ودعني عن الكنى * فلا خير في اللذات من دونها ستر
كانت بساتين الثمر في ضواحي المدن العراقية وخاصة في بغداد العاصمة تحتضن الحانات التي كانت تعج بالجواري والغلمان صباح مساء، تخفق لأغانيها المعازف والطنانير والدفوف، وتهيئ لروادها اللهو المباح وغير المباح، بعد ان كثر الرقيق في العصر العباسي كثرة مفرطة بسبب كثرة من كانوا يؤسرون في الحروب وبسبب انتشار تجارته فكان سوق النخاسة في بغداد يدعى شارع الرقيق. وكان معظم الجواري من رقيق النساء. وكان الرجال يفضلوهن على الحرائر العراقيات من النساء، لانهم كن غير محجبات واكثر منهن جمالا وفتنة، حيث كن من اجناس مختلفة، فمهن السنديات والفارسيات والحبشيات والخراسانيات والارمنيات والتركيات والروميات، وقد استكثر الخلفاء منهن في قصورهم حتى بلغ عددهن لدى هارون الرشيد اربعة آلاف، وقد بالغ بعض النساء منهن في زينتهن واناقتهن، فكن يرفلن في ثياب من السندس والاستبرق، ويختلن في الحلى والجواهر، متخذات منها تيجانا واقراطا وقلائد.
حتى النساء الحسناوات المبتذلات كن على جانب من الظرف ومفاتن الأنوثة، وقد تحولن الى ادوات اغراء وريبة – واخذن يتفنن في الحيل لجذب قلوب الشباب اليهن، مداعبات لهم بالتبسم تارة وغامزات بطرف العين تارة اخرى. يستكثرن من الخلان، سالكات الى ذلك طرق المكر والخداع.
وقد دفع الوضع الاخلاقي المتدني الى انتشار الغزل المكشوف، فكانوا ينظمون اشعار صريحة عاهرة، حتى استحال شعر بشار بن برد الى نداء صارخ للغريزة الجسدية. والاسوء من ذلك، شيوع الغزل الفاضح وتفشي عادة التعلق بالغلمان والخصيان من قبل بعض الخلعاء. فكان من الجواري من يلبس لبس الغلمان لفتا للرجال، فسمّي العصر بعصر (الغلاميات) . وعمت هذه البدعة ساقية الحانات. ولعل ذلك هو السر في ان ابانؤاس كثيرا ما يتحدث عن بعض الجواري بضمير المذكر. ونتيجة التبادل بين الجواري والخصيان وكثرة المخنثين بين المغنين والضاربين على الدفوف، ظهر من الرجال من سقطت عنه رجولته، فبدأ يتشبه بالنساء، في عادتهن ومشيتهن وثيابهن وضفر شعورهن وصبغ اظافرهن بالحناء.
ليس كل ما اسردناه عن حياة المجون، يشمل المجتمع العباسي كله، فالمجتمع العباسي في معظمه كان من طبقات الفلاحين الفقراء، الذين كانوا يكدون طيلة النهار، يتحدون ضنك العيش كي يحصلوا على قوتهم اليومي، فكانوا بعيدين عن هذه الممارسات الممجوجة والمحرمة في الاسلام اصلا.
فالى جانب حياة الفسق والفجور لوسط الاغنياء المترفين المتحللين واكثرهم كان من الفرس – – – ، كانت مساجد بغداد والمدن العراقية الاخرى يومذاك عامرة بالعباد والنساك واهل التقوى والصلاح، تكتظ بالمسلمين الزهاد من كل الارجاء، خاصة في ايام الجمعة، ينادي خطباؤها على المسيئين ان يتعظوا وعلى المنحرفين ان يخافوا الله ويزدجروا، يذكرونهم باليوم الآخر.
* بعض فقرات المقال اُقتبست من كتاب العصر العباسي الاول لشوقي ضيف.