فلاديمير تيتورينكو، آخر سفراء موسكو في بغداد
وجهات نظر
قيس محمد نوري
أجرت قناة (روسيا اليوم) لقاءً مطوَّلا مع السيد فلاديمير تيتورينكو، آخر سفير لروسيا في بغداد قبل الاحتلال، تحدث فيه عن كثير من القضايا، البعض منها يقع في دائرة اهتماماته ومجال عمله كسفير لدولة عظمى معتمد في بلد على وشك التعرض لحرب أميركية مبيتة كان الإعداد لها جاريا على قدم وساق، ومن ثم فإن الدوائر الدبلوماسية العراقية والعربية والأجنبية، كانت تتابع بالساعات وليس بالأيام تطورات المواقف الدولية وبخاصة الموقفين الأميركي والبريطاني وهما بصدد التحضير السياسي تمهيدا لشن الحرب.
كان موقف العراق آنذاك، والمعبَّر عنه من أعلى القيادات، يعمل على تجنب الحرب، ونشطت دبلوماسيته في هذا الاتجاه الذي أصبح ذي أولوية تتقدم على أي تحرك سياسي ودبلوماسي، وكان من الطبيعي أن السيد السفير تيتورينكو مطلع بدقة، كما يفترض، على موقف الدولة العراقية هذا، باعتباره سفيرا لدولة عظمى عضو دائم في مجلس الأمن، حيث حرصت وزارة الخارجية العراقية على وضعه بالصورة لهذا الاعتبار.
السفير تيتورينكو
لقد تابعت ما قاله السفير تيتورينكو في لقائه التلفزيوني المطوَّل على قناة روسيا اليوم، وذهلت للكم الهائل من التحريف وعدم الدقة في شهادته، وأنا أتكلم من موقع المطَّلع حيث كنت سفيرا في ديوان وزارة الخارجية، وشغلت مهاماً في الدائرتين السياسية الأولى والعربية في ديوان الوزارة، وكنت مطَّلعا بحكم العمل على جميع ملفات الدائرتين، واستغربت من حديثه عن خطة روسية قدَّمها هو لسحب فتيل الحرب الأميركية على العراق من خلال، كما يقول، إدخال العراق مع إيران في منظومة دفاعية خليجية مشتركة، ثم يضيف أن الخطة الروسية حصلت على ترحيب حكام دول الخليج وكذلك أميركا وإيران.. ولم يبق إلا أن تحصل على موافقة العراق نفسه!! هكذا.
أقول للسيد السفير، وملفات وزارة الخارجية شاهدة على كلامي، إن ما تحدثت به إنما هو محض خيال مجرد، حيث لم تتقدم روسيا بأي خطة من النوع الذي أشرت إليه، وتخلو ملفات وزارة الخارجية العراقية تماماً من أي وثيقة بهذا المعنى، ولا أدري من أين جئت بهذه الخطة الروسية المزعومة؟!
ثم إن العراق، وكما هو معروف للمتتبع المختص، وحتى على المستوى الإعلامي المعلن، كان يؤكد ليل نهار على سعيه لتجنب الحرب، وحاول الاستعانة بأصدقائه الأوربيين، إضافة لروسيا، لممارسة حراك دبلوماسي مكثف درءاً للحرب الأطلسية المبيَّتة على العراق، ومن ثم لو كانت هناك خطة روسية، كما يقول السيد تيتورينكو وافقت عليها أميركا وإيران ودول الخليج لكان العراق قد تجاوب معها على الفور تأكيدا للمسعى العراقي بتجنب الحرب.
وفي قصة مغادرته العراق قبل دخول القوات الغازية إلى بغداد، يروي السيد السفير رواية مختلفة تماما عن الواقع، حيث يقول أن وزير الخارجية العراقي الدكتور ناجي صبري اتصل به وطلب منه المغادرة لأن كل شيء قد انتهى!!
أرجو أن أذكِّر السفير بتلك الليلة وقبل مغادرته بيوم واحد فقط، أننا زرناه في مقر سفارته بعد منتصف الليل، وكان القصف الصاروخي على بغداد على أشده، كنا، الوزير ناجي صبري والسفير سعيد الموسوي وأنا، حيث استقبلنا السيد تيتورينكو وتحدثنا معه حول آخر المستجدات، وعقَّب هو بالقول “لو أنكم قتلتم من الأمريكيين بضعة آلاف فأنهم سوف يوقفون الحرب”.
بالطبع كان غرض الزيارة الاطمئنان عليه وطاقم سفارته وفيما إذا كانوا بحاجة إلى المؤن وغيرها، وكان هذا ضمن سياق التزمنا به لزيارة السفارات في بغداد للاطمئنان عليهم خلال الحرب، وفي نهاية اللقاء شكر الوزير ناجي صبري السفير الروسي على ثباته وطاقم سفارته وعدم مغادرتهم بغداد، علماً أن السيد تيتورينكو لم يخبرنا مطلقا بأنه سوف يغادر بغداد مع طاقم سفارته، في حين أن العرف الدبلوماسي كان يلزمه بإخبار وزارة الخارجية العراقية بنيته المغادرة، وهذا لم يحصل بالتأكيد خلافا لإدعائه المخالف للحقيقة.
ثم يتحدث عن قصص ثبت عدم صحتها، من بينها مثلا أن أكثر من 50 جنرالاً عراقياً قد خانوا الرئيس الراحل صدام حسين، وأن طائرة نقل عسكرية أميركية ضخمة نقلتهم خلال الحرب خارج العراق، دون أن يذكر إسم جنرال واحد منهم تأكيداً لمصداقية كلامه، ثم أين هبطت تلك الطائرة الضخمة؟ وهل كان باستطاعتها الإفلات من الدفاعات العراقية خاصة وأنها طائرة نقل ضخمة تحتاج إلى مدرج آمن للهبوط!!
إنه كلام ساذج غير قابل للتصديق مطلقا.
يبدو أن ذاكرة السيد السفير قد اختزنت سيل الإشاعات التي كانت تطلقها القوات الأميركية في إطار الحرب النفسية التي تزامنت مع صفحات الحرب، سواء قبل الشروع بها أو خلالها، فالقادة العراقيين الأبطال الذين شملتهم تلك الدعاية السوداء ما زالوا رهن الاعتقال، وحُكِم على كثيرٍ منهم بالموت لا لشيء سوى أنهم حافظوا على شرف العسكرية العراقية وقاتلوا الغزاة، ولم يُعرَف أبداً حتى هذه الساعة أن قائدا عسكرياً أو مدنياً عراقياً خان بلده وشرفه العسكري، لذلك من المعيب على سفير دولة عظمى أن يتبنى إشاعات روَّجتها دوائر الحرب النفسية الأميركية، وثبت عدم صحتها ويحوِّلها إلى معلومات يسوقها في حديث تلفزيوني يقدمه كشهادة للتاريخ!
أخيرا لابد للسيد تيتورينكو أن يعرف أن الخارجية العراقية في ظل النظام الوطني كانت واعية تماما لدور السفراء المعتمدين في بغداد ومهاراتهم وكفاءاتهم المهنية، ومن بين هذه المعرفة فإن الخارجية العراقية كانت على علم بأن السفير تيتورينكو كان على صلة ببعض الجهات غير الرسمية الروسية، خاصة العاملة في مجال النفط، ويعمل لصالحها، وهو ما يتعارض ومهامه الدبلوماسية، وكان هذا مشخَّصاً وغير مسموح به، بل ومرفوضاً تماماً، لكن الظرف القاسي الذي وُضِع فيه العراق آنذاك لم يسمح بإثارة هذا الموضوع مع الجانب الروسي.
إن ما جرى أصبح في حكم التاريخ، وليس من الجائز تشويه أحداث تاريخية على قدر كبير من الأهمية، ثم أن العمل الدبلوماسي نشاط حرفي دقيق لا مكان فيه للأهواء وادعاء البطولة، كون الدبلوماسي لا يمثِّل نفسه وإنما هو مرآة لدولته التي اعتمدته أميناً على مصالحها ومنصِفاً للبلد الذي يعمل فيه..
إنها فقط شهادة للتاريخ.
سفير عراقي في العهد الوطني