هنا البصرة، هنا البصرة”، كانت تلك أكثر الجمل التي ترددت تحت وابل القصف الإيراني على شط العرب والجبهة العراقية، حين قاومت البصرة، عسكرياً ومدنياً وشعرياً، وكان عباس جيجان، قد اختار تلك الجملة لتكون عنواناً ولازمة في قصيدته، التي قرأها في برنامج الإعلامية العراقية أمل حسين “هنا البصرة”، لتكون امتداداً لمشوار شعري اختاره لنفسه، مواصلاً مهمة الشاعر التي من أجلها كان الشعر أصلاً، جهازاً إعلامياً لشعبه ومجتمعه، كما في الماضي العربي، رسولاً للحياة، مرة للشعب ومرة للسلطان، ولكن دائماً لنفسه ونزقه العراقي الأصيل.
وككل العراقيين، ترك عباس جيجان لذاته أن تبحر في اللغة والصور والمعاني، لتصبح الصورة والغناء أهم من كل شيء، في سكرة مفتوحة للكلمات، لا تتجنب المحرمات، ولا تخشى الخطوط الحمر، فكان منسجماً مع ذاته كل حين، حين امتدح الرئيس السابق صدام حسين بشجاعة حسده عليها السياسيون، فما هو مسموح للشاعر محرّم على غيره، ترك البصرة وهاجر إلى بغداد، بعد غزو الكويت، لأنه يراها بغداد الرشيد وبغداد المأمون، أحبّها وعشقها، ليكون أمين سر نقابة الشعراء الشعبيين العراقيين، وبعد التحقيق معه طلب منه العودة إلى البصرة.
يقول جيجان “صدام عراقي وعربي، ولم نستورده لا من تايلاند ولا من الصين، نأخذ الجانب الإيجابي بالرئيس، أو الملك”، ” لسنا مداحين، فحالنا حال المواطنين”، “نحن نمدح ولا نقدح”. كان عباس جيجان يدرك أن كثيرين صبوا جام غضبهم على دكتاتور ليمتدحوا دكتاتوراً آخر كما في حالة الجواهري مع صدام حسين وحافظ الأسد، وغيره من الحالات الكثيرة المعاصرة والقديمة،” هاتوا المتنبي وحاكموه، إذا أردتم محاكمتي، وهو عراقي مثلي من الكوفة”.
الشاعر لا يؤدلج
يرى عباس جيجان أن على الناس ترك الشاعر لحريته، فهو يختار موضوعه واتجاهه، وهو لا “يؤدلج” وهو صوت الشعب والإنسان، ولأجل هذا المبدأ أباح عباس جيجان لذاته عنان التفكير والتقلب بين المواقف، حتى أن صوته يكاد يسبق تفكيره، فتنطلق القصيدة من فمه لتصبح واقعاً رغماً عن ضوابطه هو، ومن شعر الغزل إلى اليوميات إلى السياسة والحماسة والحنين، يتجوّل عباس جيجان، في مواضع شتى، فلا يترك شاردة وواردة إلا ويضمنها نخل البصرة وسعفه، وماء الفرات ودجلة، وعبق شط العرب، في مغتربه الهولندي قال: “أنا عطشان على دجلة شما شربت بمايكم ما أرتوي” وتحدث مع وطنه العراق، متسائلاً:” ليش إنتا من دون الدول صاحت عليك الصايحه؟ ليش إنتا من الدول بكل بيت عندك نايحه؟ ليش إنتا من دون الدول جيرانه كلها تواكحه؟”. فكان بتساؤلاته تلك يطرح ما يشعر به كل عراقي، ” ما الذي فعلناه كي نعاقب كل هذا العقاب؟ وما الذي قدمناه إلى الأمم سوى الحضارة والعلوم؟ لماذا يراد لنا التمزيق والتشتت والدم؟”.
عروبي شرس
قيل عن عباس جيجان إنه ليس عراقياً، هو تركي وأحياناً أفغاني، ولا يحق له الكتابة عن العراق، فرد شعراً على من يتهمه بأصله:
“شاعر من أهل العراق
عربي وأصلي عدناني
قريشي ومن نسل قحطانِ
لا تركي ولا مدروش بأفغاني
لك الزمان يوم الدرا الناس زماني عليك ذراني
لكن بي طبع ما أطيح
روح اسأل عليّ وشهودي عليك عدواني
أباح عباس جيجان لذاته عنان التفكير والتقلب بين المواقف، حتى أن صوته يكاد يسبق تفكيره، فتنطلق القصيدة من فمه لتصبح واقعاً رغماً عن ضوابطه هو
مو إنسان يحجي وياك
جرح يمشي على طوله وشمع بصواني
ما عندي لجوء يجتّف الإنسان ولا مربوط بلساني
عراقي أني من زاخو لحد الفاو عنواني
دجلة أمي وأبوي اسما الفرات
وليلي مرجاني
عمت عين الزمان شلون ذباني
ولو حز بضميري الجوع بس ما غيّر ألواني
يخسى التاريخ إذا مو بأول حروفها يحط اسم العراق ويشطب الثاني”.
غربته والعراق
تكاد تلمس عند جيجان شعوراً بالذنب لأنه خرج من العراق ذات يوم، مع أنه يروي سيرة خروجه كل مرة بطريقة مختلفة، فمرة يقول: “كنت مدللاً وزعلت وخرجت” ومرة يقول:” كنت قد ضقت بالدكتاتورية” ومرة يقول إنه لم يخرج وحده من العراق، بل خرج مع أربعة ملايين عراقي في هجرة تطوي المسافات الطويلة، ولكنه سرعان ما ينكر ذلك، ويقول إن تلك إشاعات، ولكنه صدح بهجرته فعرف الناس كل ما وقع له من تفاصيل وأحداث، فاغترابه ذاك هو اغتراب كل العراقيين، ولكنه يقوله شعراً بينما يضمرونه ألماً، يقول جيجان:
“طويلة هواي يا خويا المسافات
وأنا مسافر غريب بغير جنطة
أنا الضايع أدوّر بين المحطات
ولا خلٍ لكيت بكل محطة
جوازي تضوج من عندا السفارات
لم يسلم أحدٌ من لسان عباس جيجان، وكان صوت الشعوب العربية، فهاجم إيران ورئيسها نجاد لاحتلالها الجزر الإماراتية، وهاجم الخميني بشدّة، وعمائم آيات الله من حوله، وهاجم القرضاوي وصدّام حسين نفسه بعد أن امتدحه سنوات
ولا واحد يكلبه ويقرا خطه
يشوفونه خضر مملي الشعارات
يكطونه على وجهي شلون كطه
أنا المنبوذ ما بين الحضارات
وحضارتنا صفت بالسوق ورطه
ولا جن بابل وذيج العمارات
واظن أور وحضر يا فلان غلظه
من كثر ما بي خوف من الحكومات
كُمت أشوف الناس..كل الناس شرطه”.
الدكتاتور
عرف جيجان أول مرة في محافل الحرب العراقية الإيرانية، ومنابرها وخطاباته الحماسية، فكان يسبح على المنبر بجرأة، كما لو أنه لا يتحدث أمام رئيس بهيبة صدام حسين، الأمر الذي يتنافى مع شكواه أحياناً من أنه كان يُجبر على مدح الرئيس بل يظهر إيمانه جلياً بمن جعله محوراً لقصائده حياً وميتاً، صدام حسين الذي قال في حضوره بحماس شديد في أتون الحرب:
“عرفناكم
مثل ما يعرف التمساح ما ينشف دمع عينه
وعشكناكم مثل ما يعشك النعناع روحه وريحته وطينه
ولكيناكم لكوة المعتاز بسنين الكحط شراي لسنينه
كان يسبح على المنبر بجرأة، كما لو أنه لا يتحدث أمام رئيس بهيبة صدام حسين
وهواكم يا هواكم للعراق نذور يا أهل المرجلة زينه
كم آية يا حضرة خميني إلي بالكذب مكشوف
وآياتكم كلها كذب وحتى العمايم بالحقد ملفوفه
آيات أهلنا اللي صدق ومجربة ومعروفه”.
ورفض عباس جيجان الموت الذي أراده العالم للعراقيين يوماً، وقال في ما قاله بحضور صدام حسين:
“احنا نموت؟
لا ما نموت
ولو نفرض نقول نموت
والجنّاز بينا يفوت
بس من يمر باسم العراق الضيم
تصعد الغيرة ببدنا ونكسر لوحة التابوت”.
ولكنه بعد سنوات وفي العام 1991، وقف على المنصة ذاتها، وبحضور الرئيس مرة أخرى وقال في مقدمة قصيدته:” أنت أنت وأنا وأنا، هاجسٌ واحد في ليلة موحشة وقاتلة”، وتابع قصيدته:
“عليش اللي تأمنه البيت حامينا حرامينا
وعليش اللي زمط بالدين رد وكفّر بدينا
وعليش السبع لم يطيح تتكاثر سجاجينه
وعليش اللي علكنا لأجله العشرة شموع
ينفخنا ويريد بنفخة يطفينا”.
فحوكم على قصيدته تلك من قبل حاشية الرئيس، واتهم بتهديد صدام حسين شخصياً، فبرر كلامه ونفى، ثم قابله عدي صدام حسين الذي يكرّر جيجان الترحّم عليه كلما ذكره، وأخبره بأن العائلة منقسمة في الرأي حول قصيدته، فسأله جيجان: وأين يقف السيد الوالد؟ في أي قسم؟” فطمأنه عدي إلى أن الرئيس يقف في القسم المؤيد لتفسيرٍ إيجابيٍ للقصيدة.
رثاء صدام
قال عباس جيجان إنه من حق الشاعر أن ينتقد كل فساد في بلاده، كما يسلط الضوء على النواحي الإيجابية، ولكن حين تم إعدام
صدام حسين، قال إن قصيدته التي رثاه بها، كانت قصيدة رثاء، وقصيدة موقف، نظرت إلى إعداد مرحلة كاملة بتاريخها وليس إعدام رجل فقط:
“ويه الفجر
يوم العيد وي نحر النحور
صدام قدم للوطن روحه
اجه مثل الأسد
مجروح يمشي وتضحك جروحه
هم شايف جبل ينكاد
وإذا شفت الجبل مكيود
يحاجج عباس جيجان بأن الشاعر لا يصح أن يؤدلج، وعليه أن يكون حرا في فعل وقول ما يشاء ومتى يشاء
تلكه العلّه بسفوحه
هم شايف جبل ينكاد
مثل النخل مات وكوف
شاخص شامخه صروحه
بجيت وما بجيت عليك
بجيت عله الزمان الضمك بلوحه
وبجه حتى الفرات عليك
ونهر دجلة انتحر موحه
إذن تستاهل ينوح عليك شاعر ما بطل نوحه”.
فأهدر دم عباس جيجان، وأعلنت صحف العراق أن عائلته تبرأت منه، وتوعدته الميليشيات الطائفية بالقتل، وقال إن مشكلته بعد قصيدته تلك كانت مع الحكومة العراقية وليست مع رجال الدين، بل مع الأحزاب المتطرفة الشيعية، رغم كونه شيعياً، فاضطر إلى التخفي واللجوء المضاعف في بلاد كثيرة، كانت آخرها الإمارات العربية المتحدة، حيث احتفي به، وتم تكريمه وحمايته.
أوباما
لم يسلم أحدٌ من عباس جيجان، حتى أوباما ناله شرر قصائده، فكانت قصيدته الشهيرة “سيدّي الريّس أوباما” التي اشتهرت بين الملايين، وقد خاطب فيها جيجان رئيس البلاد التي احتلت العراق، وذكّره بما وقع فيه من كوارث ولم ينس الأرامل والأطفال والمهجّرين:
“سيدي الريس أوباما
اشتكي عندك عليهم
ذولا ياما وياما ياما
ذولا ياما عذبونا
وذولا ياما مرمرونا
واقل ما عدهم حكمْ حكم الإعداما
وذولا لو هدّو علينا
من يدرس شعر عباس جيجان دراسة جادة يدرك عمق الثقافة التي يصدر عنها ويضمنها قصائده، فهي ليست مجرد كلام ولكنها أفكار ومعلومات بنيت على رصيد عملاق من المعرفة
مثل ثور وهايج وفالت زمامه
وإنتا لو هديت بيهم والله واحدهم يرد مثل النعامه
احنا شعب الرافدين
جنا واحد والحضارة يشيلها بصدره وسامه
فركونا وجزؤونا وفدرلونا
وصرنا كل من شايخ بربعه وعمامه
كلنا نكره أميركا قبل جيتك وبعد جيتك
غصن زيتون وحمامه
عدنا مليونين بس من الأرامل وخمسه مليون اليتامى
وسبعة مليون التهجّر
رحنا ما بين الدول نطلب إقامة”.
جيجان والإخوان
هاجم جيجان القرضاوي والإخوان المسلمين باكراً، واتخذ موقفه الخاص من مشروعهم:
“يوم عدوا بالأرقام رقمي واحد وبعدي تأتي الأرقام
ما إجاني حاكم بيه خير لو مسودن لو حرامي
وحتى هذه اللي انتخبتا باعني برخص الكلامي
ومتهم سواني قوة، وما عرف شنهي اتهامي
وبالعجل طلع قراري
وجاب قاضي من البدون وقاله يوقع إعدامي
أمة اليفتيها مثل القرضاوي، اقرا عالدنيا السلامي”.
الاعتذار من المالكي
عباس جيجان اعتذر من المالكي فقال له كلاماً لطيفاً ولكنه في الوقت ذاته استغل استخدامه لعلي بن أبي طالب وقيمه في نقد حكومته
كان اعتذار عباس جيجان من المالكي بحضوره أيضاً ملتبسا، فقال في نقد المالكي وحكومته: “سامحني، إذا أنا غلطت وياك، موش انتا الجبير اليغفير الغلطة، وغذا انا كفرت شتمت سلطة هاذ سلطة ذاك، كل الناس من تنضام ترجع تشتم السلطة، وإذا عدكم السلطة ملك الكون، عند أبو الحسنين تسوى من العنز عفطة، وإذا دم الحسين يساوي ملك الري ترى المختار ربك عالطغى يسلطه، كم حاكم قبلك حكمنا بالحديد ونار، من حمورابي حتى آخر رئيس بقلمك تشخطه، تمثال أسد بابل راح، والثور المجنح طار، ولا تمثال ظل بالذاكرة الرطبة، شلتك بالقلب من طلعت يا عراق، لأن فرقاك بلوى وعشرتك ورطة، خلينا بالحاضر والماضي خلا يروح، عزرائيل كان مخيم بوسطه، شحجيلك بعد من ضيم با أبو إسراء مو بالكطنة قامت تنبح البطة، جزاك الله خير بصولة الفرسان جبتلنا الأمان ونجحت الخطة، اعتذرلك إذا كنت علي زعلان، وأقف قدام كل الناس راسي لك وطا، وإذا يرضى علي المالكي ويقول ماكو شي، من باجر أجيك الفرح متأبطا”.
أحمدي نجاد الرئيس الإيراني
شارك جيجان في كل نبضات الشعوب العربية، واستنفر المشاعر ضد الذين نهشوا جسد الأمة، كما يراها، أمّة، في زمن كفر فيه كثيرون بوحدة القضايا العربية، ومن تلك القضايا قضية الجزر الإماراتية التي تغتصبها إيران، فوصل بانتقاده الإيرانيين إلى درجة تذكير الرئيس السابق محمود أحمدي نجاد بمواقع العرب مع الفرس، يقول جيجان:
“اليجي من ورا الشباك ما ينحسب بالخطار
لص هذا اليريد يفوت من شباج عند جاره
أكله اقرب تعال وهلا من الباب يالمهذار
شعر عباس جيجان ليس مجرد كلام ولكنه أفكار ومعلومات بنيت على رصيد عملاق من المعرفة ربما هو رصيد كل عراقي
عدنا الشيخ للضيفان يذبح خيرة ابكارا
أمس شفته يتجول بابو موسى بنشرة الأخبار
جاري الغصب أرضي ما تسرّ الخاطر أخبارا
الجزر تعرف أهلها ونندل المعبار
والخليج العربي فينا يتسمى
ويمر من يمنا معباره
وإذا ناسي القادسية وأهوالها ومعركة ذي قار
نردله ردود ذيج المعركة وعالجسرعبّاره”.
الإنسان العراقي
ولو سئل العراقيون البسطاء عن عباس جيجان، لوجد الناس له مكاناً واسعاً في مواكبة شؤونهم الحياتية من الكهرباء إلى الماء إلى النفط والحرية والكرامة والمعاناة من الطائفية، يقول جيجان:
“منريد منكم كهربا
ومنريد منكم حصة
ومنريد منكم مدرسة
ومنريد منكم فرصة
شحصّلنا من نفط العرب؟
الروم تاخذ نصّه
اختار عباس جيجان أن يكون صوت ذلك الصمت العميق المؤقت الذي يعيشه الإنسان العراقي
وللفرس رايح نصّه
لا عدنا مال ولا نفط
لا كهربا لا ماي
فهمونا شنهي القصة؟
ما بيكم شريف الينتخي؟
وما تعرك إلكم قصة؟
هذا عراق أبو الحسنين حيدرنا علي
نعرف هواه ونخصه
وهذا عراق عمرنا العادل الفاروق أبو حفصة
من كالك اختلفنه ع النبي وآل النبي وصحبة النبي
ذول النجوم العالية بجبد السما وجبد السما ما نصه
وكل الصار واليصير بينه
هذا شغل الأجنبي بصدر العراقيين بايت نصّه
منريد منكم كهربا ومنريد منكم حصه “.
وعن العراقي الذي يلومونه اليوم على تفتت قوته، يدافع عباس جيجان:
” نتفت الصكر
قلت للصكر طير
شلون يطير وانتا منتف جناجه؟”.
ويكثر من الحديث عمن جيء بهم من المجهول ومنحوا الجنسيات العراقية، وأولئك الذين تم تشتيت شملهم في المهاجر من أهل البلد الأصلاء:
” بستان الوردْ ما ظل وردْ فواحْ
لأن ناطوره ماتْ وشال فلاحه”.
ومن يدرس شعر عباس جيجان دراسة جادة، سيدرك مدى عمق الثقافة التي يصدر عنها، ويضمّنها قصائده، فهي ليست مجرد كلام، ولكنها أفكار ومعلومات بنيت على رصيد عملاق من المعرفة، ربما هو رصيد كل عراقي، ولكن الفارق أن الشعب اختار الصمت واختار عباس جيجان أن يكون صوت ذلك الصمت العميق المؤقت.