الدكتور عادل عامر
تتمثل أبرز التطورات الدولية في نهاية الصراع الإيديولوجي بين الاشتراكية والرأسمالية، وانهيار القوة السوفيتية في السياسة العالمية. لقد انتهى الاستقطاب الإيديولوجي بما يشبه الهزيمة الكاملة للشرق والانتصار الكامل للغرب. وترجع هزيمة الاشتراكية السوفيتية إلى تفوق النظام السياسي الديمقراطي في الغرب، مقابل جموده وشموليته في الشرق. كما أن السياسات العدوانية المتطرفة للرئيس الأمريكي ريجان كان لها الفضل في تسريع التحولات الهائلة التي لحقت بالاتحاد السوفيتي، وأدت به في النهاية إلى التخلي عن الشيوعية. هذا بالإضافة إلى التدهور الاقتصادي والفشل باللحاق بالثورة التكنولوجية الثالثة وجمود الإدارة الاقتصادية. ويرى البعض بعض المؤشرات الإيجابية لنهاية هذا الصراع منها النظر إلى الصراعات الإقليمية والمحلية تبعاً لخصوصياتها بدلاً من النظر إليها من منظور الصراع الإيديولوجي والإستراتيجي العالمي الذي ميز عصر الحرب الباردة، فضلاً عن المحافظة على السلام العالمي وحق البشرية في الحياة والتقدم بعيداً عن التهديد الدائم بالحرب النووية.
ولكن على الرغم من انتهاء الحرب الباردة بمعناها التقليدي وتفكك الاتحاد السوفيتي، وما يمثله هذا من ضعف احتمالات حدوث حرب عالمية، فإن ذلك لم يحقق الاستقرار على الصعيد العالمي بل إنه، على العكس من ذلك، أدى إلى انفجار الأوضاع على عدة مستويات، نذكر منها:
– نشوب صراعات إقليمية جديدة وتصعيد صراعات كان لها جذورها السابقة، وبخاصة بين الدول الأعضاء في (رابطة الدول المستقلة)، والصراع في البوسنة والهرسك وكوسوفو، وغيرها من البؤر المتوترة في العالم، هذا إلى جانب استمرار الصراع العربي الإسرائيلي الذي يتذبذب ما بين لحظات استقرار وأوقات طويلة من عدم الاستقرار والتوتر. وهنا نشير إلى أزمة الخليج الثانية وما ترتب عليها من أحداث ما زالت مستمرة إلى الآن. كل ذلك كان له أبلغ الأثر على السياسة الخارجية للدول العربية من أكثر من زاوية، منها الآتي:
أ. الانقسام الذي شهدته الدول العربية حول أسلوب وطريقة التعامل مع العراق. فنجد أن دول الخليج كانت تؤيد الإجراءات الانتقامية التي تتخذها الدول الكبرى وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية ضد العراق، بينما نجد دول أخرى ومنها مصر تطالب بضرورة إعادة النظر في حالة العقوبات المفروضة على العراق، وذلك تمهيداً لإنهائها.
ب. تأثرت السياسة الخارجية لدول الخليج بشكل واضح فيما يتعلق بتحديد العدو المفترض مواجهته، وهنا فهي قد اعتبرت أن العراق يمثل العدو الأول لها، وهو ما يوضح التحول الذي شهدته أجندة السياسة الخارجية لعدد من الدول العربية. ويؤكد ذلك أيضا توجيه دول الخليج لقواتها العسكرية تجاه دولة العراق. وهو ما يوضح اعتبارها أن العراق هو العدو الأول لها، ذلك حتى وإن صرحت في المناسبات الرسمية بأنها مستعدة لعودة العلاقات.
ولكن هذا لا ينفي وجود أثار سلبية لهذا التطور، فالانهيار السريع للاشتراكية يمكن أن يعطى انطباعاً بالتفوق الكامن في الثقافة الغربية على حساب مبدأ التعددية الثقافية واحترام كل ثقافات العالم الكبرى، بل وخصوصية الثقافات.
وبالتالي، إذا نجح الغرب في جعل ذاته “مطلقاً ثقافياً” في أعقاب انتصاره على الشيوعية، فإن النتيجة الحتمية ستتمثل في فرض الثقافة الغربية بكلياتها العامة وربما التفصيلية على العالم بأسره. تعدُّ قضية تهميش العالم الثالث من القضايا المثارة في ظل التحولات العالمية الراهنة، وتظهر عملية التهميش هذه في مؤشرات معينة، فالدور الذي يساهم به العالم الثالث في التجارة الدولية ينكمش بشدة، إذا استبعدنا الدور المتنامي لعدد محدود من الدول الصناعية الجديدة. ويبدو الانكماش أشد في الدول التي تهددها المجاعة والمديونية مع الفقر ومشكلة التصحر والجفاف وتدنى مستويات المعيشة مع الانفجار السكاني ومشكلات اللجوء السياسي و الاقتصادي والحروب الأهلية والدولية والفجوة التكنولوجية، مما يظهر العالم وكأنه ينقسم إلى عالمين أحدهما يعانى من الظروف السابقة والآخر بعيد عن هذه المشاكل.
ويرتبط بعملية التهميش هذه فشل العالم الثالث في إقامة منظمات ذات ثقل. وهنا يشـار إلى التدهور الحادث في حركة عدم الانحياز ومجموعة الـ77. فالأولى تواجه أزمة دور وأزمة قيادة، والثانية تلاشت عملياً بسبب فشلها في الدفع نحو بناء اقتصادي عالمي جديد نتيجة لرفض الدول الكبرى المتقدمة للمطالب الأساسية لهذه الحركة. ويتمثل الوضع بالنسبة للدول العربية في عدة أبعاد، من الناحية السياسية تراجعت الأهمية الإستراتيجية للدول العربية وعلى الرغم من استمرار احتفاظ الدول العربية بجزء من هذه الأهمية إلا أن ذلك لا ينفي تراجع تلك الأهمية بشكل واضح عن فترة الحرب الباردة والصراع بين الشرق والغرب، أما الناحية الاقتصادية فقد تراجعت أسعار المواد الأولية لمستويات متدنية كما فقدت بعضاً منها أهميتها وذلك بعد تصنيع الدول الصناعية لهذه المواد. وقد قاد ذلك إلى عدد من التحولات في مجال السياسة الخارجية للدول العربية نذكر منها:
أ. أدى تراجع أسعار المواد الأولية إلى فقدان الدول العربية لجزء أساسي من مصادر دخلها وهو ما أدى إلى تراكم الديون على هذه الدول، خاصة في ظل السياسة الاستيرادية التي تتبعها هذه الدول. بل وتحولت بعض الدول إلى دول مدينة للخارج بعد أن كان ميزانها التجاري يحقق فائضاً كبيراً، وهو ما مثل تحديات وقيود كبيرة على صانع القرار في هذه الدول، كما كرس ذلك من حالة التبعية العربية للغرب، فقد بلغت المديونية العربية في عام 1995 حوالي (220 مليار دولار)، ويمكن القول إنّ هذه التبعية هي أحد الأسباب التي دفعت بعدد من الدول العربية بعد اتفاق أوسلو (بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية) إلى رفع المقاطعة من الدرجة الثانية والثالثة، وذلك أملا في تحقيق انتعاش اقتصادي وتلقى المعونات من الغرب وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية.
ب. أدى تراجع الأهمية الإستراتيجية لعدد من الدول العربية إلى إشارة الدول الكبرى المقدمة للمعونة وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية بضرورة خفض هذه المعونات وتقديم المعونات الفنية بدلاً من المعونات المالية النقدية. وهو ما يعنى رغبة هذه الدول في إنهاء هذه المعونات، وذلك في الوقت الذي تطالب فيه الدول الكبرى الدول العربية بفتح حدودها التجارية وإلغاء الجمارك أمام السلع الخارجية والخدمات – أي الاستغناء عن جزء هام من دخلها – كما يعكس الإبقاء على هذه المعونة في الفترة الحالية الإبقاء على الدور الذي تلعبه هذه الدول لخدمة مصالح هذه الدول الكبرى.
ج. يمكن رصد المعدلات المتزايدة لزيادة القوة التسليحية للدول العربية وذلك نتيجة، في احد أبعاده، للمعدلات والمقدرات الهائلة التي تمتلكها دول الجوار (إسرائيل، وتركيا، وإيران)، ويمكن الاستدلال من ذلك على عدد من النتائج منها التحول في توجهات السياسة الخارجية فيما يتعلق بالصراع العربي الإسرائيلي وإدراك صانع القرار أن التطورات في السنوات الأخيرة إنما تشير إلى أن السلام – بالمفهوم التقليدي – قد لا يتحقق، وإنما الذي يمكن أن يتحقق هو عبارة عن تسويات تفرض المزيد من تطوير القوات المسلحة حيث أن التسوية تقوم في احد أبعادها على موازين القوى. فضلاً عن اعتبار عدد من الدول العربية القنبلة الباكستانية بأنها: “قنبلة إسلامية” تعد بداية لامتلاك الدول الإسلامية للسلاح النووي على مستوى العالم