بغداد/ شبكة أخبار العراق- كلما اشتدت خطورة الوضع الأمني في العراق ، يكون بإمكانك سماع عبارة واحدة تتردد على السنة الناس من مختلف الشرائح والأعمار( لم يعد لنا مكان في هذا البلد ..الهجرة أفضل ) …ورغم ان هذه العبارة التي يرددها سائق سيارة الاجرة ومثله التاجر والموظف وعامل النظافة قد تعبر عن حلم السفرالذي يداعب أذهانهم دون إمكانية تحقيقه بسهولة الا انها تتحول الى واقع لدى العديدين منهم ولديهم العديد من الاسباب التي تدفعهم الى قطع جذورهم ومغادرة الوطن غير آسفين على شيء وان ندموا على قرارهم بعد تجربة مرارة الغربة فقد يكابرون ويواصلوا طريق اللاعودة او يعودوا ليقبلوا تراب وطنهم من جديد ويفضلوا العيش فيه ( على علاته ) …
بين نارين
غادر الوطن خلال فترة الحصار الاقتصادي ..كان قد سافر ضمن وفد رياضي وقرر البقاء في بلد اوروبي وطلب اللجوء بحجة خوفه من بطش النظام السابق ..خلال غيابه ، تعرض اهله الى المساءلة وتم اعتقال شقيقه لفترة كما تم التضييق على جميع افراد اسرته في اماكن عملهم ودراستهم لكن ذلك لم يثنه عن قراره بالاستقرار في ذلك البلد الاوروبي ..بعد سنوات ، تمكن من استدعاء اسرته الصغيرة المتكونة من زوجة وطفلين بتهريبهما عبرشمال العراق بمساعدة اشخاص تعرف عليهم خلال سفره ويبدوان مهمتهم كانت تسفير من يرغب بالهجرة الى الخارج بتهريبه عبر الاراضي الشمالية الى ايران او تركيا ثم الى البلد الذي يختاره …
بعد سقوط النظام قرر العودة الى العراق لكن أسرته رفضت مرافقته لاعتيادها العيش والدراسة بطريقة مختلفة ..عاد وحيدا وبنى لاسرته منزلا جميلا على الطراز الاوروبي لكن اولاده رفضوا العيش فيه فقرر الزواج من امراة تقاربه في السن لتهتم به وتؤنس وحشته لكنه لم يصمد امام انقطاعات التيار الكهربائي وتزايد المسؤوليات عليه بعد ان اعتاد العيش برفاهية ، وحين بدأت بوادر الفتنة الطائفية وتناقلت الفضائيات والناس اخبار الجثث مجهولة الهوية المنتشرة في الشوارع ، قرر المغاردة مرة اخرى مستغلا جنسيته الاجنبية وهذه المرة رفضت زوجته الثانية مغاردة العراق خلال محنته، فغادر وحيدا ايضا مرددا تلك العبارة ( ليس لي مكان هنا ) …
المتضرر الاول
لم يسع قلبها فرحة خطبتها لأبن خالتها ، لا لأنها حصلت على فرصة زواج مبكرة ، بل لأنها ستسافر معه الى خارج القطر …بعد سفرها بأيام اتصلت (مها ) باهلها لتبثهم اشواقها التي مازالت طرية وطازجة بعد ، ولتصف لهم راحتها بعيدا عن انقطاعات التيار الكهربائي وفقدان الأمان والخوف والضجر من وتيرة الحياة الراكدة …لم تغفل بالتاكيد وصف الثلج الذي شاهدته لأول مرة في ذلك البلد الأجنبي والكرنفالات الشعبية التنكرية الرائعة ومظاهر التكنولوجيا المتطورة هناك …
واصلت مها الأتصال بأهلها لكن نبرة الأنبهار في صوتها اختفت وحل محلها جوع الى الوطن وعطش الى طقوسه وحنين الى أحضان الأحبة …كان زوجها منغمسا في عمله طوال اليوم كما يفعل الأوروبيون ، وكانت تحدث الجدران عن لواعجها وتجالس الأنترنت وتنثر على وسادتها ذكريات الطفولة والصبا والفتوة في حضن الوطن وتحلم بالعودة الى الدفء بعيدا عن المشاعر الثلجية والملامح الباردة …
هل هي حمى اصابت العراقيات فاكتشفن مؤخرا بان متعة السفر تطغي على كل متعة ، وتعوضهن عما افتقدنه في البلد من راحة وامان …فقطعن علاقتهن مع تراب الوطن ورائحة الماضي وطعم الذكريات وحرارة العاطفة العراقية تجاه الأهل والأحبة..ورحلن …ام انه رحيل قسري دفعتهن الظروف اليه دفعا ، وعبدت اليه الطريق عشرات الأسباب الطارئة …العوز ..بناء المستقبل ..الهرب من العنوسة …الرغبة في اكمال الدراسة واسباب أخرى تجعل المراة تغامر باطلاق جناحيها مع الريح ، بعيدا عن بلدها ومع رجل قد لاتعرف عنه شيئا ، لمجرد أن تظل حية ، تتنفس الهواء وتشعر بالأمان وتحقق رغباتها الصغيرة …
ترى بان التي عادت مؤخرا من بلد اوروبي منحها الجنسية مع زوجها وأولادها ان السفر ليس حلا للعراقيين بل مأزقا جديدا يضاف الى متاعبهم العديدة فمن يترك العراق بلا عودة يستسلم لإيقاع الحياة الجديدة ويحاول ان يجد التعويض في تحقيق انجازات مناسبة في الدراسة والعمل له ولاولاده ولتوفر وسائل الراحة وعناصر التحضر التي تبعد أولاده أكثر فأكثر عن وطنهم …اما من يقرر العودة كما فعلت مع زوجها فعليه ان يتحمل كل المتغيرات ويساعد أولاده على استيعاب مايعتبرونه تناقضا مع أهوائهم وأسلوب حياتهم ..
وتعتبراحلام داود المستشارة النفسية في إحدى المنظمات النسوية ان الزوجة هي المتضرر الأكبر في عملية السفر فهي ذات تركيبة عاطفية وتحتاج غالبا الى وجودها بين اهلها وصديقاتها لذا ينسف لها حلم السفر كل تفاصيل حياتها وتضطر الى ان تتبع زوجها وتعيش حياة الغربة وربما تستمتع بها لكن تحول مستقبل الاولاد الى وجهة اخرى يجعل من الصعب عليهم تماما التاقلم مع الواقع التعليمي والتربوي في العراق من جديد وبالتالي تتضرر الزوجة كثيرا حين يقرر زوجها العودة الى حضن وطنه فهي مضطرة الى ان تتبعه ، وفي بلدها تصبح امام مهمة عسيرة هي إقناع أولادها بأن بلد آبائهم هوبلدهم الاول وان عليهم اتمام دراستهم فيه وتقبل قوانينه الاجتماعية مهما تناقض ذلك مع اسلوب دراستهم حياتهم في البلد الاجنبي …وتؤكد داوود على استقبالها للعديد من النساء المتضررات نفسيا بسبب تداعيات الغربة وتأثيراتها على علاقتهن الجديدة ببلدهن ..
نصب واحتيال
في العامين الاخيرين وبسبب تزايد سوء الظروف الامنية وخاصة بعد دخول مسلحي ( داعش ) وتعاقب ازمات الفلوجة والموصل والمناطق الغربية عموما وانسحاب ذلك على وضع العاصمة بغداد وجميع المحافظات الاخرى ، عادت عبارة ( ليس لنا مكان في هذا البلد ) لتتصدر تصريحات اغلب الشرائح العراقية وازدحمت مكاتب السفر ودوائر الجوازات بالراغبين بالسفر ، كما اصبحت فكرة الهجرة كالمرض المعدي الذي بات يسري بين الشباب خصوصا ويدفعهم الى تصفية شؤونهم والبحث عن حياة جديدة ليس فيها اثر للموت والدمار والخوف والبطالة ..
عامر حسين / صاحب مكتب للسفر يؤكد انتشار هذه الظاهرة مشيرا الى وجود اكثر من وسيلة لتنفيذ فكرة ( الحلم الاوروبي ) منها استخدام فيزا ( الشنكل ) التي تقود الراغبين بالسفر مباشرة الى بلد اوروبي عن طريق السفر الى تركيا لغرض السياحة ثم الوصول الى اليونان وبعدها التوجه الى بلد اوروبي للحصول على لجوء فيه من خلال اقناع المسؤولين هناك بفبركة قصص تهديد او اختطاف وماشابه مستغلين سوء الظروف الامنية في العراق ، لكن هذه الطريقة ليست ناجحة دائما فهناك مكاتب في بغداد تعمل بطريقة النصب والاحتيال وتمنح الشباب ( فيزا ) مزيفة وبالتالي يخوض المسافرون طريقا عسيرا وينفقون الجهد والمال وبالتالي تعيدهم السلطات الاجنبية الى العراق ..
حيدر الساعدي يرفض السفر بهذه الطريقة او غيرها بعد ان سمع بتعرض العديد من الشباب الى النصب والسرقة او الغرق في البحر لمن يعبرالطريق الى اوروبا سباحة تحت قيادة مهربين متخصصين في هذا المجال ، لكنه يفكر في الهجرة ايضا بالحصول على دعوة من شقيقة الذي هاجر قبله الى كندا لزيارته ثم محاولة الاستقرار هناك بطلب اللجوء واستدعاء عائلته بعد الحصول على الاقامة التي لايعرف احد متى يمكن الحصول عليها فقد يستمر ذلك سنوات عدة يتعين على الزوجة خلالها ان تصبر على غياب الزوج وتحمل مسؤولية الاسرة بعده ثم مغادرة حياتها واللحاق به لبدء حياة ربما لاتناسبها او تناسب اولادها وبالتالي يضيع العمر بين الانتظار ومحاولات الاستقرار .
وتتساءل الباحثة الاجتماعية هند عثمان بمرارة عن سبب صمت المسؤولين امام هذه الظاهرة التي تهدد مستقبل العراق فبعد ان هاجرت العديد من الكفاءات الفذة بدخول العراق في نفق الحروب والفتنة الطائفية ، يغادر الشباب الآن بسبب اليأس من تغير الاوضاع والحصول على حياة آمنة مستقرة وعمل مناسب مايعني ضياع الطاقات الشابة العاملة التي يمكنها بناء البلد وانتشاله من حالة الانهيار التي آل اليها مطالبة الجهات المسؤولة باحتضان هذه الطاقات والاهتمام بشريحة الشباب كما فعلت الدول الخليجية من قبل وذلك من خلال ضمان مستقبلهم عبر فرصة عمل ومسكن واستقرار امني يجنبهم الخوف من الاعتقال او الموت المفاجيء في انفجار او قتل على الهوية.