نساء أنرْن طريقي

نساء أنرْن طريقي
آخر تحديث:

د.نادية غازي العزاوي 
في تشرين الأول 1936 التحقت صبيحة الشيخ داود كأول فتاة بكلية الحقوق في العراق ،في خطوة أقرب إلى وصف (الفدائية )منها إلى مجرد (المغامرة ) ،إذا أخذنا في الحسبان طبيعة ردود الأفعال الغاضبة و المناوئة لهذه الخطوة شعبياً ورسمياً. شعبياً وصف أحد رجالات التربية والتعليم في العراق ما كان يواجه تعليم المرأة في تلك الحقبة قائلاً : « كان الرأي العام لا يرضى بدخول أي رجل كان لأيّ سبب من الأسباب في مدرسة البنات ،حتى انّ دخول عتّال في المدرسة حاملاً على ظهره خزانة أو منضدة كان يمطر إدارة المعارف بوابل من الشكاوى والاحتجاجات ،كما أنّ دخول أحد المفتشين الرسميين للرقابة والإرشاد كان يثير مخاوف الكثيرين من المسؤولين».
وعلى المستوى الرسمي المباشر تنقل صبيحة الشيخ داود جانباً من المقابلة التي تمت مع وزير المعارف آنذاك (صادق البصام ) بشأن قبولها في الكلية : أعرب الوزير فيها عن معارضته لدخولي كلية الحقوق ،وقال :إنه يؤثر أن تتلقى الفتاة دراستها لتكون معلمة أو مربية . وقال والدي :
– قانوناً لن تستطيع كلية الحقوق رفض طلب ابنتي للالتحاق بها . وسكت الوزير».
صبيحة الشيخ داود تجربة ثرية بالدلالات عندي ، ومن عدة جوانب ، منها :جرأة الريادة ، ومنها أيضاً – وهذا مهم جداً في ظني – جرأة الكتابة ،فقد سجلتْ وقائع تجربتها في كتاب ،هو وثيقة حقيقية لمن يريد الإمعان في قراءة تحولات المجتمع العراقي في النصف الأول من القرن العشرين ،فكتابها المعنون بـ(أول الطريق إلى النهضة النسوية في العراق )الصادر عن مطبعة الرابطة ،بغداد 1958، لايوثق لخطوتها الرائدة نحو التعليم الجامعي فحسب ،بل يوثق للمخاضات التأسيسية الأولى التي شهدها المجتمع العراقي في تلك الحقبة:تأسيس الحكم ،تأسيس الجيش ،تأسيس الجامعة ،تأسيس النقابات ،وربطتْ ذلك كله بتأسيس ونهوض الحركة النسوية في العراق ،فقد استمدت هذه الحركة من هذا المجتمع ،من هذه القاعدة المدد اللازم للارتقاء،وكانت المؤلفة على دراية تامة بذلك حين عزتْ في مقدمة الكتاب أسباب نهوض المرأة في العراق إلى عاملين أساسيين ومتلازمين :الأول تأثير الثورة العراقية عام 1920م ،والآخر تصاعد وتائر التعليم ، فلا عجب أنْ سارتْ في الثورة أول مظاهرة نسوية ،وفيها بدأت أول عملية اكتتاب وطني ،وكشفت عن معلومات مهمة لعلها اليوم منسية أو مجهولة ،منها أن سيدات عراقيات كتبن إبان الثورة مذكرة رفعنها إلى (المس بيل) احتجاجاً على الإجراءات التعسفية التي قامت بها سلطات الاحتلال البيرطاني بحقّ مجموعة من الشخصيات الوطنية ،ومنهم والد المؤلفة. وسط هذا الحراك المجتمعي ،وبين أحضان أسرة متنورة أقدمتْ على خطوتها الشجاعة المسؤولة ،أسرة عالم دينيّ متنور – وهي مفارقة بل معادلة نادرة في عراقنا اليوم- ، رجل دين جمع بين الإلتزام وبين النزعة التقدميّة –إذا صح الوصف- . وتصف بدقة اللحظات المثيرة التي صاحبت هذا الحدث غير المألوف :لقد خشيت أمي أن تحدث تظاهرة عند باب الكلية ،فاستصحبتني معها في السيارة ،وأنا يومئذ أرتدي العباءة وعلى وجهي البرقع الأسود ،فلما بلغنا باب الكلية ……وجدنا الطلاب متجمهرين على جانبي الطريق …..فدفعتني بيدها وقالتْ : اذهبي وحافظي على هدوء أعصابك .نزعتُ البرقع عن وجهي ،وبقيت اتمسك بالعباءة ،وأشدّ عليها بيدي بقوة . بقدر احتفائي بشخصها وبخطوتها هذه، فإني أشد احتفاء بكتابها الذي يصعب وضع توصيف محدد له ،فهو مزيج من التسجيل السيرذاتيّ ،و التدوين التاريخي العام،المعزز بالإحصاءات والجداول،والكتاب يشتمل أيضاً على عتبات مهمة ، منها: مقدمة (منير القاضي) وزير المعارف السابق ورئيس المجمع العلمي العراقي للكتاب ،ما يعني ضمناً اعتراف أعلى مؤسسة علمية رسمية بهذا الإنجاز ومباركتها له ،ومنها أن غلاف الكتاب وصفحاته قد وشحت بلوحات تخطيطية للمبدع المنسيّ يحيى جواد ،ما يشي أيضاً بمباركة الوسط الثقافي لهذه التجربة واعتزازها بها .

وممن أثرن بي كثيراً نازك الملائكة ،ليس بإطارها المشهور فحسب كشاعرة رائدة وناقدة متميزة – فالإعجاب بها قاسم مشترك بيننا جميعاً كما أظنّ- ،ولكني أتحدث عنها بصفتها الأكاديمية طالبة وأستاذة ،إذ تحتضن تجربتها قيماً خصبة تبعث على الإكبار :الرغبة العارمة في التعلّم، والمثابرة العجيبة على التحصيل والاستزادة ، متخطية حدود الاختصاص الدقيق إلى أفق المعرفة المنفتح على مجالات متنوعة متداخلة . دخلتْ دار المعلمين العالية عام 1940 م /قسم اللغة العربية،وتتلمذت على يد أعلام الأكاديمية العراقية آنذاك أمثال : د.محمد مهدي البصير ،د.مصطفى جواد ….وآخرين ،وكانت شغوفة بالدرس التراثيّ ولاسيما النحو فهو عندها القاعدة الأساسية في فقه الكلام وتحليله وتوجيهه،وقد أقبلتْ على دراسة مسائله ودقائقه بنهم ،تصفه بالقول : كنت ولم أزل شديدة الولع بالنحو ،وقد فرش لي أبي طريقاً ممهّداً رائعاً حين وضع بين يدي مكتبته التي كانت تحتوي على متون النحو وكتب الشواهد جميعاً ،ولذلك كان من الطبيعي تماماً أن أكون الطالبة الوحيدة بين طلبة قسم اللغة العربية التي اختارتْ رسالة لمرحلة الليسانس في موضوع نحويّ هو (مدارس النحو)، وكان المشرف عليها أستاذي الكبير العلامة الدكتور مصطفى جواد الذي كان له في حياتي الفكرية أعمق الأثر». مع غير نازك كان يمكن أن يقف الأمر عند هذا الحدّ المعتاد من التفوق في الاختصاص ،ولكن المسار معها مختلف لدأبها الملحوظ على تثقيف ذاتها ،وهذا لايتحقق إلاّ بتوسيع الإطار الثقافيّ ،فدخلتْ بعد عامين معهد الفنون الجميلة /فرع العود ،وتتلمذت على يد أحد عبقرياته (الشريف محيي الدين حيدر) ،تقول : « أجلس في صف العود مسحورة وكأني أستمع إلى صلاة»،ومهرت في العزف – كما توقع لها أستاذها – ،واستطاعت بعد سنين أن تثير إعجاب أستاذ الأساتذة في العود الموسيقار (محمد عبد الوهاب)،حين عزفت له مقطوعات من بعض أغانيه في جلسة خاصة .

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *