دفاتر السرد

دفاتر السرد
آخر تحديث:

محمد خضير

الدفاتر واليوميات خير معين لتأليف سيرة روائية، تمتزج فيها الحقيقة بالخيال. وتبدو روايات إيزابيل ألليندي سِيَراً روائية بأجمعها. عائلات من أصول متفرقة، بطلاتها يدفنَّ في بطون الدفاتر قصصَ حب مطعّمة بلغات مهجنة وتفاصيل نسائية منمّقة. تستعير ألليندي دفتر حفيدة تشيلية تحدرت من أصول خليطة، لتؤلف منه روايتها (دفتر مايا، ترجمة صالح علماني2012). تتوزع سيرة “مايا” على فصول السنة، حيث تمتزج السيرة المتخيلة بتقويم الحقيقة التاريخية، متشابكتين في غابة السرد العائلية. وإنها لضرورة تلزم القارئ بوضع مخطط باختلاقات الأجداد الجامحة، تلك التي برعت سلالة ماركيز بتسجيلها في دفاتر الدكتاتوريات البائدة، مع رتوش من أحلام عائلاتها الخرافية. تمتلئ دفاتر نساء الدكتاتوريات بمثل هذه التخيلات لأمد غير نهائي، تحاول ألليندي تقييدها عبثاً بتقويم فصلي 

متسلسل. الأسماء تلوذ بظلال البيوت المسكونة بالأرواح، تجذب خيط السرد بسلاسة أو تلفّه على مغزل من الأوهام والحدوس السحرية في عقدة دائرية. فاسم “مايا” يعني في لغة السلالات الهندية/ التشيلية “سحر، وهم، حلم”. مايا التي سنلاحق يومياتها فصلا بعد فصل، فتاة رضيعة تخلّت عنها أمها الدانماركية بعد افتراقها من زوجها التشيلي اندرياس الذي يعمل على الخطوط الجوية. تودِع الأم الطفلةَ لدى جدتها “نيني” أم أبيها أندرياس، وتروي مايا في دفترها ما روته لها جدتها المنفية نينا عن زواجها الثاني من عالم الفلك الأفروأمريكي “بيبو” وانتقالها للعيش معه في كاليفورنيا. رُبيت مايا على نزوات جدتها الغريبة، ومزايا شخصية الجدّ المتسامحة، وينتهي الفصل الاول “فصل الصيف” بذكريات موت الجد بالسرطان. نحن الآن في العام ٢٠٠٩، وقد انكسر مسار الحفيدة، حين تدفع الجدة بحفيدتها للانتقال الى موطنها الأصلي تشيلي، خوفاً عليها من عواقب سنتعرفها لاحقاً. مايا في عمر التاسعة عشرة، وهي تتهيأ لركوب الطائرة تتسلم من جدتها دفتراً، هو التاسع والأخير بين دفاترها، وتوصيها: “سيكون لديك وقت الى حد الملل يا مايا. استغليه في كتابة الحماقات التي اقترفتها، لعلك تقدّرين ثقل حجمها”. وهي تشير من طرف خفي الى نزواتها هي نفسها (تشارك الجدة في المظاهرات ضد الحرب والعنصرية وتناصر جمعية LGBTD وتعني اختصاراً: السحاقيات، المثليين، ثنائي الجنس، عابري الجنس، المتشككين). 
خبأ الجد بيبو دفاتر مايا التي أمسكتها بين الثامنة والخامسة عشرة من عمرها في درج مقفول بمكتبه، وتشك مايا التي لجأت الى صديق لجدتها في جزيرة صغيرة في أرخبيل تشيلوي بجنوبي القارة، يسكنها ألفا نسمة، في قيمة مدوناتها التي ستُستخدم في تحليل شخصية مطارَدة مثلها: “أجد تعقيداً في الكتابة عن حياتي، لأنني لا أعرف ما هو مقدار الذكريات في ما أكتبه، وكم هو نتاج مخيلتي؛ فالتزام الحقيقة الصارمة قد يبدو مملاً، ولهذا، ودون انتباه مني، أحور الحقيقة أو أبالغ فيها. لكنني قررت تصحيح هذا العيب والتقليل قدر الامكان من الكذب في المستقبل”. عندما تستسلم مايا الى ذكرياتها عن جدّيها وحياتها الأولى فإن الدفتر يفيض بالتفاهات أو الحماقات وذكريات الولادة والدراسة والتشرد في شوارع الأحياء الفقيرة بمدينة بيركلي مع الزنوج والمدمنين والمتسولين. كانت أسرتها محقة في ادخال الفتاة المراهقة الى مؤسسة علاجية لإعادة التأهيل. لكن دفتراً موسوماً بلطخات سود متتالية: هرب مايا من مدرسة العلاج، اغتصابها من صاحب شاحنة فظ أقلها في الطريق، وقوعها في قبضة تاجر مخدرات من لاس فيغاس واختلاطها بمافيات الجنس، والتسكع ثانية وبيع جسدها بعد مقتل رئيسها التاجرــــ هذا الانحدار السريع لجسد محطم على “سلالم الجحيم”، قبل العودة الى جدتها التي أقصتها الى جزيرة تشيلوي ـــ لن تفيد في تأليف حبكة روائية من تواتر السيرة 
هنا نعرف أن اليوميات ليست سوى بروفة رواية. لا أظن ألليندي تجهل ذلك. فرؤيتها التشردية تطارد انثربولوجيا الأجناس المهاجرة وقدرهم السياسي التعس الذي يفرقهم، لكنها تسهو عن اعطاء تبرير كاف لإنشاء رواية محكمة تجمعهم تحت سقف واحد. وهذا التشظي يخدم سيرة فتاة هجينة مثل مايا تسجل خواطر الحياة المتبدلة حولها بمزاج ناري. إلا أن انتقالها الى جزيرة تشيلوي واختلاطها بشخصيات من نوع آخر، في مقدمتهم راعيها الباحث الأنثروبولوجي، المبعَد مثلها، مانويل آرياس، سيحوّل مسار الدفتر نحو فصل آخر مع نساء جزيرة تشيلوي وطقوسهن. يحدث تغير جذري للجسد “المدنس” وينعطف الدفتر في فصلي الخريف والشتاء ليقيم صلة بيولوجية وروحية بطقس تطهيري يرافق صعود مايا على سلالم الجزيرة. لكل منا جزيرته يلجأ اليها لتنظيف حياته من السموم واللطخات. لم تكن جزيرة مايا وحدها، إنما كانت ملجأ المنفيين والضالين مثلها، روح جدها بوبو الذي يأتي لينقذها كلما سقطت في أزمة، أرواح اربعة آلاف وخمسمائة معتقل أنهى انقلاب بينوشيت العام 1973 حياة أكثرهم. ينتهي الصيف، بمطاردات بوليسية تخلّ بدفاتر الرواية التي تسجل أزمنة المنفيين وضحايا الدكتاتوريات. اذ لا يبقى من النبرة الطقسية لأسلوب ألليندي غير أثر دراماتيكي لمغامرات فتاة سقطت من جيب أسرة منفية، كسقوط ثمرة جوافة من جيب ماركيز العظيم.

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *