جاسم المطير
في بلادنا توجد وزارة مهمتها توفير العدل، لكن العدل ليس محور نشاطها.
توجد وزارة للثقافة ليس في أبدان مؤسساتها أي وجيب أو نشوة ثقافية.
توجد وزارة للدفاع، وزارة للداخلية، وزارة للأمن الوطني، لكن الأمن يومئ بالاحتضار يومياً.
توجد وزارة للهجرة والمهجرين ،لكن زخم شبابنا المهاجر يزداد عبر البحار، والنازحون عن بيوتهم داخل الوطن يسفحهم الزمان بالضيم.
توجد وزارة للمالية ، لكن فرمانات التقشف تصدر ليلاً ونهاراً.
يوجد عندنا جيش وعشائر مسلحة وحشد شعبي وميليشيا وتحالف دولي ورباعي، لكن تنظيم داعش يصول ويجول لنشر الخوف والظلام.
توجد وزارة للصحة، لكن أمراض الصيف والشتاء تزداد جمراتها اشتعالاً.
أوجدوا 22 وزارة في التشكيلة الوزارية بعد متعرجات الادّعاء بعملية سياسية – اصلاحية، لكننا لم نجد فيها لوناً بهياً ولا منجزاً شعبياً مزدهراً. يوغل المتربعون على عروشهم بالتستر على جراحها ،التي لا تفلت من لعنة (الفساد) المنتشر في مفاصلها ، مخترعة ناراً حارقة لحقوق موظفيها والمواطنين عموماً.
الفساد المالي والإداري وحده يزهو بالازدهار، حتى صار وطننا حقيقة محوّمة في المؤسسات الاحصائية الرقابية العالمية باعتباره البلد رقم (1) في العالم من دون أن يغيض هذا الرقم لا رئيساً، في الرئاسات الثلاث، ولا وزيرا من الوزراء ،الذين صار همّهم الأول والأخير هو التصاعد إلى علا الوجود الشخصي وأبراجه النفعية الرحيبة .
في ذات الوقت نجد في بلادنا فيضاً من اللقاءات والبرامج التلفزيونية، فيضاً من صفحات الصحف الشعبية والوطنية، تعلو فيها صرخات المظلومين والمظلومات، المتظاهرين (في ساحة التحرير ببغداد، والحبوبي في الناصرية، وساحة أم البروم بالبصرة، وميدان ثورة العشرين في النجف، وفي شوارع السليمانية ،أيضاً..) وغيرها من الساحات والشوارع العراقية ، الكاشفة عن فساد وتفكك الهيكل العظمي للدولة الديمقراطية ..! كل ذلك يكسو جسد الدولة ورؤسائها ووكلائها ومدرائها وقياداتها ،المدنية والعسكرية، بالنقد العلمي أحيانا والجارح أحيانا أخرى ، لكن لم نسمع ولم نرَ غير رطانة الأجوبة السطحية من الفاسدين والمفسدين والمدافعين عنهم في مجلس النواب وخارجه . كل هذا (النقد) يجعل الناس جميعاً، يدركون أن المسئولين الحكوميين جميعاً، لا يأبهون لقراءته أو سماع اصوات الناقدين. البرهان هنا هو اختفاء (النقد الذاتي) في تصريحات الوزراء والمدراء والرؤساء والنواب كلهم. لا احد منهم يقر أو يعترف حتى بوجود (أخطاء) بممارساته الحكومية ، لا يستوعب ما يحفل بالديمقراطية، بشيء اسمه (النقد والنقد الذاتي). كما لا يتفتح امامهم شيء اسمه :(الاعتراف بالخطأ فضيلة). لا ينفتح أمامهم باب عنوانه التغيير السياسي يحتاج الى لؤلؤة وهّاجة.
قيل سابقا ويقال حاليا انه لا يوجد إنسان فاسد مالياً من دون أن تلطمه كارثة (فساد اخلاقي). أي لا يمكن ان يتحول الانسان إلى حضن (الفساد) من دون أن تكون اخلاقه ملوثة ، مهما اخفى وجهه بقناع من اقنعة الدين، مهما غطى نفسه بملابس حريرية.، فقد قال الكاتب الروائي غابريال ماركيز: الفاسد ثعلب أملس الفراء عديم الاخلاق.
تجلّت كل هذه الأقوال في السنين المحترقة منذ عام 2003 حتى (طلعتْ ريحتكم ..) مسترسلة وممتدة في اغلب مؤسساتها.
اليوم نجد بلادنا فيها بنادق تجوب الشوارع . يدّعي حاملوها أنهم يدافعون بها عن دين الله ، بينما نجد الكثير من الماسكين بكراسي السلطة يحلمون بالمال والذهب والخزائن. نجد ، أيضاً، متدينين بوجوه كاذبة بعد أن غاب عنها نور الدين الحقيقي . لكن نادراً ما نجد رجلاً من رجال الدين يلحق الهزيمة بنفسه كما فعل قبل 5 ايام أسقف بولندي عندما كشف اشياء مخفية عن انظار الناس حين امتلك قوة رجل شجاع ،ليس سكرانا ولا زائفا ، معترفاً بما سيطر عليه من انحراف أو شذوذ جنسي.
نعم.. (اعترف) اسقف اسمه كريستوف أولاف عمره 43 سنة يقوم بتدريس (العلوم الدينية) في جامعتين إيطاليتين.. (كشف) عن واقعه الخلقي المستور ،من دون شعور بألم أو أسى .. هو رجل دين مكلف بالإشراف على حسن التقيد بالعقيدة الكاثوليكية لكنه منحرف. قال الكاهن للصحافيين: ( لقد كشفتُ حقيقتي وأنا مسرور لذلك ..) حاصلا ً بذلك على قرارٍٍ فوري بطرده من منصبه الفاتيكاني.
متى يتعلم السياسيون العراقيون ، من قادة الاحزاب، المتدينة وغير المتدينة، أن (الاعتراف بالخطأ فضيلة) وأن (العدل لا يتحقق) ، و (الأمن لا يضيء)، و(الهجرة لا تتوقف) و (المال لا يتوفر) و (الانتصار على كل انواع الدواعش لا يسطع) ما لم يدرك القادة السياسيون أن انحرافاتهم تحتاج الى ضياء اعترافاتهم بأخطائهم وأن الدولة العراقية لا تهلك بمغادرة بعض قادتها الفاسدين من مناصب لا تقوم على مبدأ (الرجل المناسب في المكان المناسب) .