الرئاسات الثلاث: الزعماء يناضلون للبقاء ولاية جديدة
مشرق عباس
في أجواء عراقية تبدو غامضة ومريبة يتم التعامل مع مهمة البحث عن بدلاء للزعماء العراقيين التقليديين كأنها تقع ضمن اختصاص حصري للنخب الحزبية وفي نطاق جلسات سرية وضبابية، وبعيداً تماماً من الرأي العام الذي يتم التعامل معه كمشاهد سلبي عديم الحيلة.الشهور الأخيرة كانت حافلة بحوارات مطولة خلف الكواليس حول البدلاء، مرة عن رئيس الجمهورية جلال طالباني الذي تعرض لأزمة صحية كبيرة، وتنتهي ولايته الرسمية مع نهاية هذا العام، ومرة اخرى عن رئيس الحكومة نوري المالكي الذي يواجه مطالب بالإطاحة به ويتمسك بدوره بتمديد حكمه إلى ولاية ثالثة، وأخيراً جرى حديث أيضا عن بديل لرئيس البرلمان اسامة النجيفي. وفي معرض البحث عن بدلاء، تم طرح اسماء وإحراق اخرى، وبدت الدائرة في كثير من الاحيان وكأنها مغلقة ليس على المكون الاجتماعي (سنّة وشيعة وأكراد)، بل على مستوى الاحزاب السياسية داخل المكونات ايضاً، فكان منصب رئيس الحكومة محسوماً لـ “حزب الدعوة” ومنصب رئيس الجمهورية محسوماً لـ “الاتحاد الوطني الكردستاني” والحال لا يختلف كثيراً بالنسبة الى رئيس البرلمان. الحصر أو التحديد لم يعد يتعلق بالمكون والحزب فقط، بل ان تنميط كراسي الزعامة يتم تجذيره في الوعي الشعبي العراقي الى ظاهرة شخصية، فمن “المعيب” الحديث عن بديل لرئيس الجمهورية وهو على فراش المرض! ومن الطائفية والتآمر الحديث عن بديل لرئيس الحكومة! كما ان من الخرف البحث عن بديل لرئيس البرلمان. والأصل ان الحديث عن بدلاء هو جزء من اي حراك ديموقراطي طبيعي، فتولد الحكومات في الامم التي اختبرت المراهقة الديموقراطية قبل قرون وتولد معها حكومات الظل، ولا تتوقف وسائل الإعلام ومراكز البحث السياسي عن التفكير بالبدلاء منذ اليوم الاول لتولي اي مسؤول السلطة.
توازنات كردية
رفض أكراد العراق في الغالب الحديث عن بدلاء للرئيس العراقي جلال طالباني، وتؤكد المعلومات عن الطبيب الخاص للرئيس انه يتعافى من الازمة الصحية التي ألمّت به قبل شهور. لكن البحث عن بديل لا يتعلق بصحة الرئيس فقط، فالدستور العراقي ينص في شكل صريح على ان لرئيس الجمهورية ولايتين فقط، والحديث عن الرئيس القادم قد يمتد حتى الانتخابات العامة المقبلة بداية عام 2014 او قد يتم في اي وقت من هذا العام في حال أُجريت انتخابات مبكرة.وتداول الاوساط السياسية الكردية قضية البديل يستدعي نوعين من التوازنات:
الأول: يتعلق بعدم حدوث تغييرات شاملة في خريطة القوى العراقية عموماً على أثر الانتخابات المقبلة، ما يسمح بحصر مهمة اختيار رئيس الوزراء بالمكون الكردي، مع العلم ان السنّة طالبوا بالمنصب في مراحل مختلفة.
الثاني: ان الخريطة الكردية الداخلية ستحافظ على الاوزان الحالية للاحزاب، ما يعني ان على حزب “الاتحاد الوطني الكردستاني” اختيار رئيس من ضمن قياداته.
وفي حال تحققت تلك التوازنات، فإن حزب “الاتحاد الوطني الكردستاني” الذي يعد طالباني زعيماً تاريخياً له، لا يبدو انه سينجح بسهولة في اختيار مرشح متفق عليه للرئاسة.
فعلى رغم ان فلسفة طالباني القائمة على منح مساحة واسعة للحوار الفكري داخل حزبه نجحت الى حد بعيد في حفظ ديمومة الحزب وفاعليته، إلا ان مراكز القوى داخل الحزب والتي تتصدرها اليوم شخصيات مثل برهم صالح وكوسرت رسول وهيرو عثمان (عقيلة الرئيس) وملا بختيار، قد تتطلب المزيد من الضغوط والسجالات الداخلية قبل الاتفاق على مرشح محدد، مع رجحان كفة نائب رئيس الحزب برهم صالح الذي يمتلك قبولاً كردياً وعربياً ودولياً لنيل المنصب. ومع ان هذا السيناريو ليس مستبعداً وتم طرحه مع تعرض طالباني الى ازمة صحية، فإن طبيعة العلاقة بين حزب طالباني وحركة “التغيير” التي انشقت قبل بضع سنوات عن الحزب ويتزعمها نوشروان مصطفى وهو احد الزعماء الاكراد التاريخيين، قد تحدد في وقت لاحق ملامح الخيار الكردي المقبل. واللافت ان اتفاقاً سابقاً بين طالباني ومصطفى حول تعديل نظام الحكم في اقليم كردستان من رئاسي الى برلماني، أثار حفيظة حزب رئيس الاقليم مسعود بارزاني “الديموقراطي الكردستاني”، وللمرة الأولى تم في الحوارات الجانبية طرح اسم بارزاني لرئاسة العراق في المرحلة المقبلة. من غير المعلوم اذا كان مشروع رئاسة بارزاني للعراق سيرى النور في ضوء تسريبات عن رغبة الأخير في الاستمرار في منصب رئيس الإقليم.لكن هذا الخيار سيطرح في حال نجحت احزاب المعارضة الكردية وحزب طالباني في تغيير نصوص الدستور الكردي لتشمل حصر ولاية رئيس الاقليم بولايتين على ان يتم انتخابه داخل البرلمان وليس بطريقة الانتخاب المباشر وتحديد صلاحياته ليتحول الى منصب شرفي، وفق طروحات كتلة “التغيير” المعارضة التي تصر ايضاً على ان تنتهي ولاية بارزاني الثانية نهاية عام 2014 عبر تطبيق فقرة تحديد الولاية بأثر رجعي.وفي انتظار ان يتم حسم هذا الموضوع في الاقليم داخلياً، تبرز طروحات اخرى تذهب الى تولي اكراد العراق منصب رئاسة البرلمان، مقابل تولي العرب السنّة منصب رئاسة الجمهورية، وهو ما اكده بارزاني في مناسبات مختلفة، وأقرّه طالباني ايضاً، مؤكّدَين في الوقت نفسه ان الظرف ليس مناسباً لمثل هذا التغيير. وفي حال تحقق هذا الخيار، فإن عين رئيس البرلمان العراقي المنحدر من محافظة نينوى، اسامة النجيفي، ستكون على منصب الرئيس بغياب نائب الرئيس السنّي طارق الهاشمي الذي خرج كما يبدو من اللعبة السياسية الى وقت مقبل، بعد الحكم عليه بأحكام إعدام عدة.
السيناريو الآخر الذي يطرحه مقربون من المالكي يتعلق بتحول الاخير الى رئيس للجمهورية بعد تغيير نظام الحكم في العراق من برلماني الى رئاسي، وهو خيار صعب التطبيق الى حد بعيد لحاجته الى تعديل دستوري صعب. لكن ما يتم تداوله في المقابل هو أن تتيح الانتخابات المقبلة خريطة تسمح للمالكي بالحصول على 160 مقعداً برلمانياً على الأقل، ما يسمح له بالانتقال الى منصب رئيس الجمهورية واختيار احد أعضاء حزبه لرئاسة الوزراء. وهذا الاحتمال معقد بدوره، لأنه يتطلب كسر نظام المحاصصة الطائفية والعرقية، وحصول طرف واحد على منصبين قد يطعن بهذا التوازن إلا اذا تم الاتفاق قبل الانتخابات على صفقة كبيرة تتضمن منح رئاسة الحكومة لطرف من خارج منظومة الأحزاب الشيعية التقليدية يدعمه السنّة والأكراد مقابل تولي المالكي منصب رئاسة الجمهورية.ومنصب الرئيس العراقي في النهاية لن يخرج من نطاق التوافقات الضمنية الإيرانية – الأميركية – العربية، وفق توليفة سياسية كان الرئيس العراقي جلال طالباني أفضل خياراتها خلال السنوات الماضية.
المالكي بلا ولاية ثالثة
على رغم ان الحديث عن ولاية المالكي الثالثة كان من بين أسباب الأزمة السياسية العراقية الحالية، خصوصاً ان الأخير تعهد قبيل توليه ولاية ثانية انه لن يترشح مجدداً، فإن آمال أنصار المالكي بدفعه إلى الحكم من جديد أصبحت اقل فاعلية.مستوى المعارضة التي امتدت من الإطراف السنية والكردية الى حيز كبير من الوسط الشيعي، ومن ضمن ذلك اعتراض غير معلن من المرجعية الشيعية العليا التي يقودها آية الله علي السيستاني، على تولي المالكي ولاية جديدة، كان تُرجم بقانون “تحديد ولاية الرئاسات” الذي لم يفصّل فقط لمنع المالكي من تولي ولاية جديدة وإنما امتد إلى منع توليه ورئيسي البرلمان والجمهورية أكثر من ولايتين اثنتين متتاليتين او غير متتاليتين.المعلومات المتوافرة من داخل المطبخ السياسي العراقي تؤكد في المقابل ان محاولة عرض مدير مكتب المالكي السابق طارق نجم بديلاً للمالكي خلال الأسابيع الماضية، رُفضت بشدة من ايران، لكن القيادات الإيرانية لم تعترض على إبدال المالكي بمقدار اعتراضها على توقيت التبديل.المصادر المطلعة على تطورات الإحداث تؤكد ان طهران تجد ان إحداث تغيير في رأس السلطة التنفيذية العراقية عبر الإقالة قد يوقع العراق في أزمة سياسية طاحنة تشجع على حدوث فوضى شاملة. والرؤية الإيرانية حول الفوضى العراقية لا تتعلق بالموقف من العراق بالضرورة، فالتطورات على الساحة السورية، ومخاوف انفتاح الجزء الغربي السنّي من العراق كعمق استراتيجي للثوار السوريين، إضافة إلى وضع إيران الحساس في مفاوضات الملف النووي، والعقوبات التي تضغط على الاقتصاد الإيراني، أسباب موضوعية تقف خلف التحفظ الإيراني. وقراءة الرؤية الإيرانية كما ينقلها المطلعون فهمت من جانب الإطراف الشيعية الرئيسة في العراق كضوء اخضر إيراني لتغيير المالكي بعد إكمال ولايته الحالية وربما العمل على كسر تمسك “حزب الدعوة” بمنصب رئيس الحكومة.ويبقى السؤال الذي لم تجب عنه تلك المصادر حول إذعان المالكي نفسه للتوجه الإيراني الجديد، خصوصاً إذا حقق ما يصبو اليه في الانتخابات العامة المقبلة، ونجح بالطعن في قانون تحديد الرئاسات عبر المحكمة الدستورية.وعلى رغم ان رئيس الحكومة العراقي لمس كما يبدو عدم حماسة طهران لدعمه إلى ولاية ثالثة، وقرر على أثر ذلك فتح اتصالات واسعة مع جبهات إقليمية ودولية، فإن احتمالات تكراره معادلات 2010 لا تبدو كبيرة، في ضوء توجه أميركي ينقله مقربون من أوساط القرار في واشنطن الى عدم تشجيع المالكي لولاية جديدة. واشنطن شجعت في شكل غير مباشر وعبر اتصالات مع زعماء عراقيين مختلفين مساعي إبدال المالكي قبل نهاية مدّته، ولم يتم طرح اسم طارق نجم وهو قيادي في “حزب الدعوة” إلا بعد إشارة مرور أميركية. لكن مرور بديل المالكي القادم من خلال المالكي نفسه، ما زال يثير تحفظات لدى أوساط شيعية فاعلة منها “تيار الصدر” الذي يسعى بدوره إلى نيل المنصب في حال حصلت توافقات شيعية داخلية عليه.طموحات عادل عبد المهدي (المجلس الاعلى) وإبراهيم الجعفري (تيار الاصلاح) وأحمد الجلبي (المؤتمر الوطني) ما زالت بدورها قائمة لترؤس الحكومة خلال الفترة المقبلة. المرشحون الثلاثة يحاولون دعم فرصهم بفتح علاقات مع الاوساط السنّية والكردية تسمح بتذليل العقبات المتوقعة للترشيح، كما انهم يواصلون الاتصالات مع طهران وواشنطن للغرض نفسه. لكن بديل المالكي لن يكون من الاسماء الثلاثة في الغالب، ولن يكون طارق نجم، الذي يواجه بدوره منافسة داخل “حزب الدعوة” من اسماء مثل علي الأديب، وحيدر العبادي، وحسن السنيد. ومبرر هذا الافتراض ان البدلاء المحتملين للمالكي وايضاً الجهات الداعمة لهم داخلياً، ما زالوا يعتمدون “خلطة المالكي” نفسه لنيل رئاسة الحكومة، والتي تستند الى معادلة دعم اميركي – ايراني من جهة، وصفقات داخلية من جهة ثانية.المتغيرات التي حدثت منذ تولي المالكي منصبه للمرة الثانية نهاية عام 2010 على مستوى ثورات “الربيع العربي” ووصول انظمة حكم جديدة، وتعاظم الدور التركي في صميم الصراع الاقليمي، واندلاع الثورة السورية وتحولها الى معركة كسر عظم اقليمية، اضافة الى تنامي تأثير السياسة الخليجية في المنطقة… كلها عوامل ستكون مؤثرة في اختيار بديل المالكي الجديد.كما ان اندلاع التظاهرات السنية، وتحدثها بلسان صريح عن “مظلومية سنية” و “تهميش” و “حقوق” ستغير بدورها طبيعة التوليفة التي كانت أنتجت مراراً صفقات تشكيل الحكومات السابقة.الغموض في هذا الملف يتطلب تساؤلاً من زاوية أخرى ستكون الإطراف العراقية والإقليمية والدولية مضطرة لطرحه ومفاده: “ما هي مواصفات الشخصية السياسية التي سيحتاجها العراق خلال المرحلة المقبلة؟”. ستتباين الإجابات بالتأكيد بتباين الأهداف، فالحاجة إلى عراق موحد ستفرض دعم شخصيات مختلفة تماماً عن الحاجة الى عراق مقسم، مثلما ان الحاجة الى عراق يضع خطوة على طريق النهوض الاقتصادي، ستختلف عن الحاجة إلى عراق مهشم وضائع في الأزمات والخلافات، والحاجة الى عراق لديه موقف محايد من أزمات وصراعات المنطقة ومنها الأزمة السورية، ستختلف عن الحاجة الى عراق منحاز.الزعيم العراقي المقبل سيكون من جديد ناتج حلول وسط بين تلك الحاجات، وهذه المرة ستكون الحلول أكثر تعقيداً بتعقيد المطالب الداخلية والإقليمية والدولية.