لم يعد الزعم بالانتساب إلى فكرة ما وحده كفيلاً بأن يُحتسب هذا الحزب أو الجماعة أو الفرد في إطار ما يريد أن ينسب إليه نفسه، بل أن الممارسة ستكون العبرة الأساسية بالقرب أو البُعد من الفكرة ذاتها، إذْ لا يمكن فصل الممارسة عن النظرية، مثلما لا يمكن فصل الوسيلة عن الغاية. وأكثر ما يتجلّى ذلك في الماركسية التي لا يمكن التعامل معها كمنهج وأداة تحليل فحسب، وإنما ” ممارسة وتطبيق” أي كـ “براكسيس”!. ولعلّ الانفصام بين الفكرة وتطبيقاتها وإن كان أمراً سائداً، لكنه أصبح صارخاً منذ انهيار الكتلة الاشتراكية التي على كل ما فيها من عيوب ومثالب، لكنها كانت منسجمة مع نفسها، بما فيها مبرراتها الخاطئة وتطبيقاتها السيئة التي قادتها إلى الاستبداد، فأصبحتَ ترى قيادة شيوعية ” تتخندق” مع الاحتلال وتؤيد معاهداته الاسترقاقية، وتستمر في الوقت نفسه تعلّق اللافتات الماركسية، وتجلّى مثل هذا الأمر في المؤتمر الأخير للحزب الشيوعي في الإتحاد الروسي، الذي يعود ” تاريخه” إلى حزب البلاشفة، وهو يحاول التشبث بالتاريخ، فالتاريخ هو الصخرة التي يستريح عندها العاجزون أو المتحوّلون. الظاهرة الروسية ” الأم” ليست استثناءً، بل أصبحت مسألة شائعة وفاقعة في أوساط محسوبة على ملاك اليسار والماركسية وامتدّت إلى أوساط أخرى دينية وقومية، فعلى الرغم من أن بعضها انتقل إلى الضفة الأخرى، لكنه استمرّ في الخانة الآيديولوجية القديمة، يلوذ بتعاويذها ويردّد ” أدعيتها”!. الحزب الذي حكم الاتحاد السوفييتي نحو سبعة عقود ونيّف من الزمان مُنع من العمل القانوني بعد انقلاب آب (اغسطس) العام 1991 والذي كان البروفة الأخيرة قبل انحلال الدولة السوفيتيية، التي تأسست في أعقاب ثورة اكتوبر العام 1917، وما بين الثورة والدولة جرت مياه كثيرة تحت الجسور كما يقال، فالحزب الذي حمل راية التغيير والتجديد، تحوّل بحكم موقعه في الدولة إلى حزب محافظ، والحزب الذي حلم بإلغاء الفوارق الطبقية وتحقيق العدالة الاجتماعية بالقضاء على الاستغلال، ضاقت به السبل، فحاول ابتلاع المجتمع مثلما حاول أن يأكل نفسه وإن كان بطريقة القضم التدريجي، والحزب الذي حلم بالحرية لتكون راية ترفرف على رؤوس الجميع، تحوّل مع مرور الأيام إلى نظام استبداد وهيمنة وكبت للحريات. وتلكم كانت أهم معاول الهدم التي عاشت معها التجربة الشيوعية السوفيتية، فمن جهة كانت محاولات البناء، لمشاريع كبرى، بكهربة البلاد السوفييتية، وتنظيم السبوت التطوعية، لا سيّما لأعضاء الحزب ومؤازريه وتمجيد الإنسان وعمله، ومن جهة أخرى كانت عملية الحفر تجري على قدم وساق، من السطح وحتى العمق، وذلك بنمو وتغلغل البيروقراطية بأذرعها الأخطبوطية ومن الرأس إلى الذنب، لدرجة الانفصام والانفصال عن الشعب الذي ظل يعاني وينزف ويشدّ الأحزمة على البطون، في حين راح ” القادة” ينعمون بكل مباهج الحياة ويتعالون عليه ويرفعون من شأن عبادة الفرد، الزعيم، الأوحد، الفيلسوف، الأديب، الحكيم، الأمين العام، ويتعقّبون الخصوم والأعداء في الحزب وخارجه تحت عناوين مختلفة للاقصاء والإلغاء والتهميش. بعد أكثر من 9 عقود ونيّف من الزمان استمرت لهجة الحزب “العتيق” الذي أراده زعيمه لينين أن يكون حزباً من طراز جديد في كتابه ” ما العمل”؟، الصادر في العام 1902، بذات الايقاع وبنفس الأفق، ولكن دون بريقها في القرن الماضي الذي شهد صعود الآيديولوجيات بعد عهد القوميات. هكذا نستطيع قراءة أطروحات غينادي زيوغانوف أمين عام الحزب الشيوعي الروسي وسلوكه السياسي، لا سيّما وهو يتربع على رأس هرم الحزب منذ العام 1993 حين عاد الحزب إلى الحياة السياسية بعد تغيير اسمه، ليس هذا فحسب، بل إن الموقف من المعارضة الحزبية استمر كما هو، وكأن الزمن قد توقّف، خصوصاً عندما تقرأ مبررات وذرائع طرد المعارضين، باعتبارهم ” أعداء” الحزب يسعون إلى تخريبه وهم مندسّون لا بدّ من فضحهم والتخلّص منه. وبقدر تشدّد زيوغانوف إزاء الآراء المغايرة في داخله استمرّ بتقديم التنازلات إزاء خصومه الخارجيين، وعمل على مجاملتهم، مردّداً إن رسالة الفكر الاشتراكي – الشيوعي تجد مشتركات لها مع رسالة السيد المسيح، بل أن الحزب الشيوعي الروسي حاول التقرّب من الكنيسة الآرثوذكسية. وإذا كانت أحزاب وشخصيات شيوعية وماركسية قد أعادت قراءة علاقة الماركسية مع الدين في إطار جديد، انطلاقاً للمشتركات الإنسانية، فإن تلك القراءة انطلقت من رؤية فكرية ولم تكن مجاملة سياسية لحسابات نفعية، كما هي تجربة الزعيم الكوبي فيديل كاسترو وحواراته مع فراي بيتو الراهب الكاثوليكي البرازيلي في الثمانينيات الذي أزال الكثير من الغشاوة الكثيفة التي غلّفت الرؤية القديمة للشيوعيين والماركسيين من الدين. وإذا كان هذا التحوّل إزاء الموقف من القوى الدينية والغزل مع الكنيسة في روسيا بعد أكثر من عقدين على انهيار التجربة الاشتراكية، فإن هذا المنحى ذاته اتبعه الزعيم الشيوعي الروسي من القوميين الروس المتشدّدين متخلياً عن مبدأ لينين الذي كان قد بلوره إبان الحرب العالمية الأولى والذي يتعلق بفكرة حق الشعوب في تقرير المصير، وقد اتّخذ الحزب الشيوعي الروسي مواقف متعصّبة إزاء الشعوب التي تطالب بكيانية مستقلة، لا سيّما في الشيشان وغيرها. أما التحوّل الثالث بعد الدين والقومية فهو انحياز الحزب لصالح الدولة المركزية على حساب الدولة اللامركزية، وتنديده بالحركات التي لا تصبّ في مصالح شعوبها المرتبطة تاريخياً بالشعب الروسي حسب تعبيره. ويعتبر التحوّل الرابع أكثر صدمة، ولا سيّما إعادة النظر بالفترة الستالينية “المظلمة” والتي كانت بداية إدانتها في العام 1956 في المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفييتي، فقد اكتفى الحزب بعد مرور نحو ستة عقود من الزمان على إدانتها، برصد بعض الارتكابات والأخطاء فيها، في حين أعلى من تقييمه للزعيم الشيوعي جوزيف ستالين باعتباره “زعيماً قدّم خدمات جليلة لشعوب الاتحاد السوفييتي وقاده للنصر على ألمانيا النازية”، وهو بذلك يغضّ النظر عن أعمال البطش والعنف ومعسكرات الاعتقال وشحّ الحريات التي رافقت عهده، وتلك ليست سوى تفاصيل إزاء تحسين ظروف المعيشة والتقدم العلمي – التكنولوجي حسبما يقول الحزب. وقد استبدل الحزب تكتيكاته من الرغبة في تغيير سياسة النظام في عهد بوريس يلتسِن إلى “حزب مستأنس” في عهد فلاديمير بوتين، وكان الرئيس الروسي قد أرسل رسالة تحية للحزب بمناسبة انعقاد مؤتمره الأخير، ومن المفارقات أن حزب الثورة أقلع عن فكرتها، بل أنه يخشى الوصول إلى السلطة، وقيادة الدولة حتى بالطرق الانتخابية، ويرغب في البقاء في المعارضة. لقد سكت الحزب عن دك يلتسين البرلمان بالدبابات في العام 1993، كما بلع لسانه بخصوص تزوير الانتخابات، ليبقى يلتسين في السلطة مرّة ثانية في العام 1996، وساوم على تزوير انتخابات كانون الأول (ديسمبر) العام 2011، واكتفى بالحديث عن طعون قضائية سيقدّمها ضد الانتخابات البرلمانية. كل هذه التحوّلات أثّرت على تطوره ومكانته وعلى قدراته التعبوية والتصويتية، حيث بدأت مقاعده بالتراجع من 157 (1995) إلى 113 (1999) ثم 52 مقعداً (2003) و57 مقعداً العام 2007 و92 مقعداً في العام 2012 وهناك من يشير إلى أن عضوية الحزب تراجعت من 600 ألف عضو إلى 150 ألف. وأن نسبة الشباب لا تزيد عن 15% في أحسن الأحوال تفاؤلاً. وقد بلور بعض أعضاء الحزب رسالة مفتوحة بعنوان ” خيانة الشيوعية” قالوا فيها: لقد طفح الكيل من سياسة أمين عام الحزب والتي أدّت إلى إضعافه وتحويله إلى مهزلة في الداخل والخارج، كما اتهموه بالفشل والانتهازية والإثراء، الأمر الذي أثّر على رصيد الحزب. ومن الغريب أن الحزب يدير ظهره للتطور العالمي بشأن التداولية على الرغم من أنها أصبحت سمة للتغييرات الجديدة في أوروبا الشرقية والعالم أجمع، حيث تم انتخاب الأمين العام غينادي زيوغانوف مرّة أخرى بعد تصفية المعارضين، وبذلك يكون أميناً عاماً طيلة عشرين عاماً، فكل شيء ينبغي أن يخضع للعبة الكراسي! الأخطاء الفادحة التي استمرّ عليها الحزب هو تأييد أنظمة الاستبداد، سواء الموقف من صدام حسين أو القذافي أو الأسد، إضافة إلى مواقفه السلبية من دول الربيع العربي والتغييرات التي حصلت فيها، وفي تقرير المؤتمر الأخير المنعقد في 23-24 شباط (فبراير) 2013 جاء ما يلي: ان ما يسمّى بالربيع العربي ترافق مع التدخل الأجنبي في شؤون مصر وتونس والبحرين واليمن، وتحوّلت ليبيا التي كانت مزدهرة يوماً ما إلى ساحة للمجرمين وقطّاع الطرق، ولا يكفّون عن محاولات تفجير الوضع في سوريا، إذ تقوم عصابات المرتزقة بارتكاب أعمال الارهاب وخلق الفوضى بانتظار تدخل الغرب المباشر… معتبراً في بيان خاص أن هذه الجماعات مموّلة ومدرّبة، ويصلها السلاح، دون أن ينظر إلى مطالب قطاعات واسعة من الشعب السوري. وهكذا تحوّل الحزب الذي ظلّ يبشّر بالثورة ويدعو للحرية والعدالة إلى حزب محافظ وصديق لقوى الاستبداد وضد حق الشعوب في تقرير المصير ومع الدولة المركزية ومجاملاً للكنيسة وأصحاب رؤوس الأموال، على حساب تاريخه العويص، الطويل العريض وصراعه التاريخي مع جميع هذه القوى.
الزيوغانيفية ولعبة الكراسي بقلم عبدالحسين شعبان
آخر تحديث: