تحدث احد الاصدقاء لي ، بعد سفرته السياحية ، التي قام بها مؤخرا ، الى احدى الدول الاوربية . يقول ، وعلامات الانبهار ، تظهر على محياه ، وهو يصف جمال المدن ، التي زائرها خلال رحلته ، واصفا مدنها ، بأن كل مدينة ، تختلف عن المدينة الاخرى ، بطرز معمارها ، ومعالمها الحضارية ، والتاريخية . وكيف تستنفر الطاقات الخدمية للبلديات ، في المحافظة على نظافة شوارعها ، وساحاتها ، وحدائقها كل يوم . وكيف تهتم تلك البلديات ، برموز المدينة ، من مفكرين ، وعلماء ، وقادة عسكريين ، وتضع نصب تذكارية لهم ، لتكون معلما بارزا للمدينة . ويتوقف صديقي عن الكلام لبرهة ، ويعاود حديثه ، بمرارة ، حين يقارن تلك المدن ، بالمدن العراقية ، التي بهتت صورتها ، واسودت الوانها . فلم يبق فيها ، سوى ابنية ، تشكل فوضى بصرية ، ومكانية ، تشترك جميعها ، بصورة تجريدية قاتمة .
مدننا ياصديقي .. فقدت هويتها العمرانية ، التاريخية ، منها ، والثقافية ، ولاتواكب التغييرات ، التي تطرأ عليها . فالمدينة لدى اهل المعمار ، ياصديقي ، حصيلة تفاعل العوامل الاجتماعية ، والاقتصادية ، والسياسية ، والتاريخية ، لتشكل مشهد المدينة الحضرية . وهذه الامور غير موجودة في مدننا ، التي تشترك في شوارع غير منظمة ، وساحات عشوائية ، مليئة بأكداس النفايات ، وارصفة ، متجاوز عليها من قبل البائعين المتجولين ، واصحاب السيارات . فمدننا تعاني ازمة خانقة ، تتجلى بالفوضى العمرانية غير المتجانسة .
انه ياصديقي التلوث البصري ، بكل معانيه السيئة والثقيلة .. فهل رأيت مدينة ، تختلف عن مدينة اخرى ، في بلدنا كلها تشترك ، بصفات معينة ، لاتمت لتاريخها ، وثقافتها بشيء . وهذا التشابه ، اخرج مدننا من التوصيف المعماري .
يقولون ياصديقي ، ان الانسان ابن بيئته ، ونتاجها .. فكيف تريد ان يخرج انساننا العراقي ، بالجمال في ظل بيئة احترفت ، القتل ، والارهاب ، وزرعت في كل شبر ، كتل كونكريتية ، واسلاك شائكة ، وشرطي . لقد اغتيلت البيئة ، في مهدها حين تقاسمتها السياسة ، مع الحروب . فلم يبق لنا شيء نتوسد عليه سوى ذكريات واغاني عن ” نخل السماوة ” و” ياصياد السمج ” والهور، والبادية .
ياصديقي ، يقول اهل البيئة من الاختصاص ، ان كيلو واحدا من الوزن الجاف ، لورق الاشجار، له القدرة على امتصاص الرصاص ، بمعدل 30 – 40 ميلليغرام . كما ان شجرة واحدة بالغة ، لها القدرة على امتصاص الرصاص المنبعث ، من 120 كيلو غراما من البنزين لمحترق . وان حزاما اخضر ، بعرض 30 مترا ، يمكن ان يمتص يوميا 15 كيلو غراما من اكسيد الكاربون . كما ان البكتريا ، تقل بـ 200 مرة في الهواء في ظل الخضرة والاشجار . ولكن ياصديقي ، افتقدنا هذه الميزة ، بسبب استيلاء الاحزاب السياسية ، والمتنفذين من السياسيين ، في مدن العراق ، على معظم الساحات ، داخل المدن ، التي يؤشر التخطيط العمراني ، انها مساحات خضراء ، وتحويل جنس الارض ، لتكون اراض سكنية ، واخرى تجارية . وبيعت ، بالاتفاق مع دوائر البلديات ، بأثمان بخسة لهم . اسألك ياصديقي .. هل وجدت جريمة ، مثل هذه ، في تاريخ البلدان ، حين يجردون الانسان من كل شيء ؟ لاتقول اضغاث احلام ، انها الحقيقية ، بأبشع صورها . الحقيقة ، التي نعيش فصولها كل يوم ، ونشاهد حلقاتها ، كمسلسل درامي . حيث البطل يفاجأنا ، كل حلقة بشيء جديد ، حتى لاتصبح الحلقات مملة للمشاهد . وكذلك السياسيون ، يسرقون كل يوم شيء منا حتى لاتصبح ايامهم مملة ويضعون ، اللوم علينا ، وعلى الاوطان . فكل يوم يظهر شيء جديد ، ومسروق . انها الاحترافية في التمثيل السياسي . !