هل سيطمئن رئيس حكومة تصريف الأعمال، حيدر العبادي، الآن إلى أنه، في الوقت بدل الضائع له ولحكومته، قد حجز لنفسه مكاناً ورقماً في قائمة حكّام العراق المستبدّين؟ .. إذا لم يُدرك ذلك بعدُ فإنني أطمّنه إليه ولا أهنئه عليه.
القرار بقطع خدمة الإنترنت لا يمكن أن يُقدم عليه في هذا الزمن إلا مَنْ هو مِن نمط الحكّام المستبدّين الطغاة الذين لا يقيمون الاعتبار لحرية الإنسان وكرامته، ولا للنصّ الدستوري الذي يُلزم الدولة بكفالة طائفة من الحقوق والحريات الخاصة والعامة، وفي مقدمها حرية التفكير والتعبير والإعلام والنشر، وكذلك حرية الاتصالات والمراسلات البريدية والبرقية والهاتفية والإلكترونية وغيرها (المادة 40 من الدستور حظرت مراقبة كل هذه الأنواع من الاتصالات أو التنصت عليها أو الكشف عنها “إلا لضرورةٍ قانونيةٍ وأمنية، وبقرارٍ قضائي”، والسيد العبادي ومجلس الأمن الوطني الذي يترأسه اتّخذا قرارهما بتعطيل خدمة الإنترنت بالكامل ثلاثة أيام، وجزئياً أياماً أخرى،من دون قرار قضائي، وبما شمل العراقيين كلّهم (عقوبة جماعية)، بمن فيهم الذين لم يشاركوا في التظاهرات في المحافظات المنتفضة وفي المحافظات الأخرى التي لم تشهد أي تظاهرة… هذا تعسّف واستبداد وطغيان من الطراز الاول، وقد أضيرت به مؤسسات الدولة ومؤسسات المال والاعمال والمنظمات والجمعيات والنقابات ووسائل الإعلام جميعاً التي لحقت بها أيضاً خسائر مادية كبيرة.
الذين اقترحوا ذلك والذين وافقوا عليه والذين التزموا الصمت حياله من أعضاء مجلس الأمن الوطني والحكومة والقوى السياسية المتنفذة، إنّما اشتركوا جميعاً في ارتكاب جريمة بحقّ الشعب العراقي بأسره، فضلاً عن أنهم أظهروا جهلاً فاضحاً في قواعد الإدارة وأصول الحكم. والإجراء نفسه مثّل اعترافاً صارخاً بالفشل الذريع لجهاز الإعلام الحكومي الذي عجز هذه المرة أيضاً عن تقديم إعلام وطني مهني، ما أعطى فرصة ذهبية جديدة لما تعتبره الحكومة ورئيسها ومجلس الأمن الوطني والطبقة السياسية المتنفذة إعلاماً “معادياً” أصبح المصدر الأساس للمعلومات عن مجريات الانتفاضة الشعبية في محافظات الجنوب والوسط.
إعطاء الأوامر باستخدام الرصاص الحي والقنابل المسيلة للدموع وخراطيم الماء الحار والهراوات وآلات القمع الأخرى على نحو عشوائي وطائش، عكس هو الآخر نزعة استبدادية عالية المستوى لرئيس الوزراء القائد العام للقوات المسلحة ومجلس الأمن الوطني وعموم الطبقة السياسية المتنفذة التي مارست الدجل بإعلان تأييدها للتظاهرات واعترافها بأحقيّة مطالب المتظاهرين وشرعيتها ودستوريتها. كما مثّلت حملة مطاردة المتظاهرين المنسحبين إلى بيوتهم بعد انتهاء التظاهرات واعتقالهم في الطرق العامة وتعذيبهم، تردّياً آخر في مستوى الممارسة القمعية المنافية للأخلاق والقيم الوطنية وأحكام الدستور التي حظرت صراحة استخدام القوات المسلحة والأجهزة القمعية “أداةً لقمع الشعب العراقي” (المادة 9).
كان بإمكان السيد العبادي وحكومته ومجلسه الأمني أن يتفادوا إطالة أمد الاحتجاجات الحالية، وأن يحولوا دون تفاقمها لو أنهم منذ اليوم الأول اتّخذوا الإجراءات التي أعلنوا عنها لاحقاً، وهي إجراءات كان الشعب العراقي موعوداً بها منذ سنوات، بل كان يمكن تجنّب حصول كل ما حصل لو أنّ العبادي التزم على مدى السنين الأربع الماضية ببعض ما تعهّد به في برنامج حكومته وفي الحزمتين الإصلاحيتين اللتين أعلنهما أمام مجلس النواب عقب انتفاضة صيف 2015، وفي مقدمها وعلى رأسها مكافحة الفساد الإداري والمالي الذي لولاه ما جاع الشعب العراقي ولا انهار الاقتصاد الوطني ونظام الخدمات العامة ولا تجاوزت الميليشيات وعصابات الجريمة المنظّمة على القانون وممتلكات الناس وحقوقهم وكرامتهم، وهي جميعاً مما دفع الناس إلى الانتفاضة من جديد.
السيد العبادي.. لا اطمئنان ولا طمأنينة مع الاستبداد والطغيان .. انظر في مصير أسلافك القريبين والبعيدين لتتأكد، إنْ كنتَ في شكّ..!