في الأيام القليلة الباقية عل موعد الانتخابات العراقية القادمة، والتي تشكل مفصلا تاريخيا سيقرر شكل العراق القادم ولونه ورائحته، زاد واشتد كثيرا جدا تقافزُ أصحاب القوائم والتيارات والائتلافات خلف الممولين والداعمين المحليين والخارجيين، من أجل ضمان أقصى ما يستطيع أحدهم انتزاعه من أصوات الناخبين، بشتى الوسائل، مشروعة كانت وغير مشروعة، لكسب أكبر عدد ممكن من مقاعد البرلمان والحكومة، وامتلاك السلطة والمال والقدرة على جرِّ العراقيين إلى ما يريده “الممولون” المحليون والخارجيون، أو على الأقل تقليل أو تعطيل ما يزعجهم من قرارات وسياسات وتصريحات.
ولأن غدَ أيِ وطن لا يولد إلا من حاضره فإن في إمكان المستقصي الحصيف أن يتلمس بعض معالم الوطن العراقي الجديد الذي ستلده عواصف الانتخابات القادمة.فأمريكا موجودة فيه، ومعها، حبا أو احتياجا، حلقاتٌ واسعة من العرب السنة والشيعة، ماعدا سنة قاسم سليماني وشيعته.ومعها أيضا كثير من كرد الأحزاب القومية والإسلاموية، ومسعود البارزاني وحزبه وقبيلته وقوات البيشمركة التابعةُ له.وفي صفها أيضا التركمان وكثيرٌ من المسيحيين، ونتفٌ من قوميات وأديان أخرى. ومعها، طبعا، السعودية والإمارات والأردن وتركيا وإسرائيل وبريطانيا وفرنسا، وما خفي كان أعظم.ولكن إيران موجودة فيه أيضا، وبقوة السلاح والطائفة والإمام الغائب، وممسكة بأهم شرايين الوطن وأورته، ومعها نوري المالكي وهادي العامري وجيوش حزب الله العراقي واللبناني وكتائب سيد الشهداء وعصائب أهل الحق وجيش المختار ولواء أبي فضل العباس، وبقية التابعين.
فلا نظام الولي الفقيه يقبل ويتحمل ثمن خروجه من العراق، مهما كلفه البقاء من التضحيات والمعوقات والتحديات، ولا أمريكا تقبل بأن تتخلى عن العراق وكنوزه النفطية والجغرافية والسياسية والعسكرية بتاتا، وإلى آخر نفس.ورغم أن القوات الأمريكية المتواجدة في العراق هي الأقوى والأكثر قدرة على القول الفصل، لو أرادت، لأنها مسلحة بأفضل وأحدث وأخطر مما لدى الحشد الشعبي، وتسندها قوة أمريكا العسكرية والسياسية والاقتصادية الهائلة، إلا أن الرئيس الأمريكي ترمب أعلن صراحة “سنخرج من سوريا قريباً جداً، ولندع الآخرين يهتمون بها الآن، قريباً جداً.. قريباً جداً، سنعود إلى بلادنا حيث ننتمي، وحيث نريد أن نكون”. وهذا يعني أنه ليس في وارد المواجهة مع إيران لا في سوريا، ولا في العراق.
مع شيء مهم آخر هو أن أمريكا التي لا يقرر الرئيس ولا الكونغرس متى تحارب، ومن تحارب، وأين، هي التي أنعمت على ورثة الخميني بتخليصها من أعدى أعدائهم، صدام حسين، وإعطتهم العراق بقضه وقضيضه، وما زالت تلاطف وكلاءهم العراقيين، من أكبر راس إلى أصغر راس. ولا يبدو أنها نادمة على ذلك، برغم كل ما يكتب وما يقال.ولعل أهم ما ينبغي تسجيله هنا أن إيران مكروهة في العراق، ولكنها باقية. وأمريكا هي الأخرى ليست محبوبة، ولكنها باقية هي الأخرى.ولكن لأن إيران لم تجعل تدخلها في العراق محبوبا، أو مقبولا، من العراقيين، شيعتهم قبل سنتهم، واختارت أن تتخذ من العراق قاعدة لإطلاق مشاريعها التحريضية والتخريبية والإرهابية ضد دول الجوار فقد أجبرت دول الخليج وحلفاءها على التدخل الناعم والخشن في الشأن العراقي، حماية لأمنها الوطني وضمانه.
فإن كان الوجود الإيراني الاحتلالي في العراق حلالا، فمن العقل والحكمة والمنطق والشريعة أن يكون حلالا أيضا تدخلُ الآخرين.وبالرغم من أن المراقب السياسي الحصيف لا يقبض حروب التهديدات المتبادلة بين أمريكا ووكلائها وبين إيران ووكلائها في العراق وسوريا، إلا أن من السهل عليه أن يتنبأ بالآتي من الأحداث بعد الثاني عشر من أيار / مايو القادم.ففي ظل الاحتراب الانتخابي الدامي الحالي الجاري، قولا وعملا، استعدادا لانتخابات الشهر القادم، يمكن تحديد احتمالاتٍ ثلاثة كلٌ منها سيجعل العراق القادم عراقا مختلفا عما كان عليه، ربما منذ قرن من الزمان.
الأول أن ينتصر الحشد الشعبي ونوري المالكي وقاسم سليماني، وتصبح الدولة العراقية في خبر كان، من الآن ولعشراتٍ من السنين القادمة، ويضمُها كبار أعوان الولي الفقيه إلى أملاك الامبراطورية الفارسية العائدة، ويجعلون من بغداد عاصمتها الجديدة.وهذا يعني أن معارك تكسير العظام ستنطلق إلى أقصى حدودها، وبأقسى من كل ما مر، بتفويضٍ قانوني برلماني وحكومي، وبفتوى شرعية دينية وطائفية أيضا. وقد تأخذ من أعمار العراقيين والعرب والعجم سنين عديدة من الدم والدموع.
والثاني أن يتمكن فريقا أمريكا الظاهرُ والمخفي من أن ينتزع أغلبية المقاعد في البرلمان والحكومة، تحت رداء شخصية عراقية مداهنة، كحيدر العبادي، أو غيره.ومعنى هذا اضطرارُ الحشد الشعبي ومليشياته إلى التحرك لتعديل التوازنات، وإعادة الهيبة إلى نظام الولي الفقيه، ثم اضطرار المعسكر الآخر للدفاع عن نفسه بما يتوفر من الوسائل والأساليب.وهذا شكل آخر من معارك تكسير العظام قد يأخذ، هو الآخر، من أعمار العراقيين والعرب والعجم سنين عديدة من الدم والدموع.
والثالث أن ينتصر عراقُ أهون الشرين المتمثلُ بولاية ثانية لحيدر العبادي الذي اشتهر باللعب على حبال المزاوجة الصعبة بين الصيف الأمريكي والشتاء الإيراني. ورغم أن هذا الحال أقلُ دما ودموعا، ولكنه يعني استمرار حالة اللاأمن، واللاسلم، واللاإعادة إعمار، واللامحاربة فساد، ولا هم يحزنون.وهذا أكثرها احتمالا باعتباره حل الترضية الإجبارية بين أمريكا وإيران، في انتظار ما سيكون بعد أربع سنوات من السبات.والسؤال المهم الآن هو أيَّ العراقات يريد أهلنا العراقيون؟؟.