مزحة السفيرة الأميركية

مزحة السفيرة الأميركية
آخر تحديث:

 بقلم:فاروق يوسف

لسنوات طويلة بدا الأميركان كما لو أنهم تخلوا عن العراق الذي أنفقوا المليارات في عملية غزوه واحتلاله وتدميره مكتفين بدور استشاري في تقلبات مزاجه السياسي لا يخرج عن إطار الوصاية الإيرانية.في حقيقة المخطط الأميركي لم تكن هناك فكرة لبناء عراق أميركي. ذلك ما أكدته وقائع السنة الأولى للاحتلال. لقد بدأت سلطة الاحتلال مهامها بعد أن ألغت الجيش العراقي ومحت كل أثر للدولة العراقية وأقرت قانونا لاجتثاث حزب البعث بتأليف مجلس للحكم هو بمثابة القاعدة التي سيقوم عليها في ما بعد نظام المحاصصة الطائفية وهو ما يتناقض كليا مع الديمقراطية.وكما هو معروف فإن الأميركان لم يعدوا العراقيين إلا بالديمقراطية التي تبين أنها ستطبق ضمن الوصفة الطائفية التي كان مؤكدا أنها ستحول العراق إلى محمية إيرانية. لذلك كانت الديمقراطية العراقية صورة طبق الأصل عن الديمقراطية الإيرانية.

من غير تنسيق مع إيران ستكون مهمة جاكوبسون صعبة وليست مستحيلة. تملك الولايات المتحدة أوراقا لم تستعملها للضغط على إيران. ولكن من المستبعد أن تستعمل تلك الأوراق من أجل عيون العراقيين.لقد غادر الأميركان العراق بعد أن تركوه بلدا محطما يعيث فيه الفساد خرابا وتفتقر الغالبية من سكانه إلى أبسط وسائل العيش في ظل بنية تحتية مدمرة لم يعالجها شيء من إيرادات بلدهم الغني بالنفط بعد أن تمكن الفاسدون من رسم خرائط لنفقات ليس من ضمنها إنعاش البلد اقتصاديا عن طريق التنمية.

نضحك على أنفسنا لو صدقنا مقولة أن الأميركان كانوا قد سهوا دون قصد مبيت عن مسألة الفساد. فالفساد في العراق بدأ باعتباره اختراعا أميركيا وجدت فيه الأحزاب المتبناة أميركيا ضالتها. لقد سن نوري المالكي كل القوانين التي تشرعن الفساد قبل أن يغادر الأميركان العراق بسنوات وهو ما يعني أنهم باركوا الفساد الذي هو وصيتهم.ولكن تريسي جاكوبسون وهي سفيرة الولايات المتحدة الجديدة في العراق تقول شيئا آخر. بالنسبة إليها لا يزال العراق في الحاضنة الأميركية ولم يغادرها. كل ما مضى هو زمن عراقي وليس زمنا أميركيا. معها سيبدأ الزمن الأميركي الحقيقي!

في كلمتها أمام الكونغرس أكدت جاكوبسون على ضرورة التنمية الاقتصادية في العراق وأهمية أن تكون هناك حكومة قادرة على تقديم الخدمات لشعبها. من وجهة نظرها ذلك كفيل بالقضاء على الإرهاب وإنهاء عمل الميليشيات المرتبطة بإيران.تصريحات السفيرة الأميركية أحدثت دويا هائلا في بغداد. فهل صحا العقل السياسي الأميركي من غفلته أخيرا؟ وهل سيتمكن الأميركان حقا من ضبط الميليشيات الإيرانية التي سبق لها أن قامت بقصف قواعد أميركية ووضعها تحت السيطرة؟

من غير تنسيق مع إيران ستكون مهمة جاكوبسون صعبة وليست مستحيلة. تملك الولايات المتحدة أوراقا لم تستعملها للضغط على إيران. ولكن من المستبعد أن تستعمل تلك الأوراق من أجل عيون العراقيين.لست من المتفائلين برؤية عراق نظيف من الميليشيات. ذلك لأن تلك الميليشيات صارت جزءا من النظام السياسي بعد أن تسللت إلى سلطاته الثلاث ،لا أعتقد أن السفيرة الأميركية لم تضع كل ذلك في حساباتها. فالعراقيون الذين كانوا يأملون في أن تكون بلادهم مختبرا للتجارب الديمقراطية الأميركية فوجئوا بأن الخيار الوحيد الذي وضعته الولايات المتحدة أمامهم يتمثل في ديمقراطية ترسي قواعد للاستبداد الذي اتخذ في ما بعد طابعا دينيا.

كان لا بد لذلك النظام أن يجد في الميليشيات التي سمحت سلطة الاحتلال بدخولها من إيران واستيلائها على سلاح الجيش العراقي السابق سدا يحميه وهو ما شاهدناه جليا حين تصدى النظام لاحتجاجات تشرين الأول/أكتوبر 2019. أما حين قتلت الميليشيات أكثر من 700 من شباب الانتفاضة فإن ذلك لم يشكل صدمة بالنسبة إلى صناع القرار في واشنطن. واقعيا كانت الميليشيات تدافع عن النظام الذي أقامته سلطة الاحتلال الأميركي في العراق. فهل علينا أن نصدق أن الإدارة الأميركية قد حدثت من نظرتها المستقبلية لمصير العراق؟

لست من المتفائلين برؤية عراق نظيف من الميليشيات. ذلك لأن تلك الميليشيات صارت جزءا من النظام السياسي بعد أن تسللت إلى سلطاته الثلاث. لم يعد مفاجئا أن يرى المرء وزيرا أو نائبا أو قاضيا ينتمي إلى إحدى الميليشيات. في حالة من ذلك النوع فإن القضاء على الميليشيات يتطلب نزع الشرعية عن الدولة. فهل جاءت جاكوبسون لتعيد الأوضاع في العراق إلى عام 2003 كما لو أنها بول بريمر جديد؟ سنصدق من خلال السفيرة تريسي جاكوبسون أن الولايات المتحدة تسعى إلى استعادة العراق الذي سبق لها وأن تخلت عنه لإيران. ولكن ماذا نفعل بركام العشرين سنة الماضية الذي هو ليس مجرد حمولة مادية، بل هو حمولة عقائدية لن تتمكن الولايات المتحدة من تفتيتها. عراق اليوم هو غير عراق عام 2003. لذلك فإن العاصفة التي أثارتها السفيرة الجديدة لن تصل إلى بغداد إلا باعتبارها مزحة.

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *