“أنا عاري…. أنا خائف”، كانت تلك الجملة الاولى التي نطق بها آدم حين ادرك عريه بعد تناول ثمرة المعرفة حسب اسطورة الخلق، وقد كان الاغريق القدماء يصنفون غريزة الخوف في المرتبة الثالثة من ناحية قوة تأثيرها على الانسان بعد حب الذات والفخر. أدرك السياسي أهمية توظيف غريزة الخوف لتعزيز السلطة السياسية في الانظمة المستبدة والديمقراطية على حد سواء، فانتهج الطغاة سياسة تسليط الرعب المباشر على رعاياهم أو مواطنيهم عملاً بنصيحة ميكافيلي القائلة بأن الحاكم الذي تخافه رعيته أكثر ثباتاً وقوة من نظيره الذي يحبه الناس. أما الانظمة الديمقراطية، ففي الوقت الذي تتجنب فيه سياسة الترهيب – على اعتبار أن الديمقراطية أساساً هي وعد بتحرير الانسان من الخوف-، إلا ان عدداً من تلك الانظمة تعمد الى تخليق حالة من الفزع الجماعي من أعداء وهميين أو مبالغ بخطورتهم لتمرير أجنداتها وكسب التأييد الشعبوي . الابن الخائف يتوسل الحماية من أبيه مقابل الطاعة والاذعان لكل اوامره، والشعب الخائف يستجدي حماية الحاكم في مقابل التكيف مع سياساته والتهاون في حقوقه الدستورية. تمثل تلك السياسة علامة مميزة في مسار الديمقراطية الامريكية وربيبتها الفتية في العراق ، وقد استلهمت تلك الانظمة من نظرية هوبز في العلاقة بين الحاكم والمحكوم لأضفاء مسوغات اخلاقية على سياساتها في تخليق أجواء الخوف بين مواطنيها لتعزيز سلطتها وضمان تعبئة الحشود المؤيدة.
خلافاً لاعتقاد ارسطو بأن الانسان بطبيعته حيوان سياسي، يرى توماس هوبز أنه ليس بكائن اجتماعي أصلاً ، فهو مسكون بهاجس الخوف على حياته من الاّخر، ويميل الى الاستحواذ على أكبر قدر من الثروة والقوة والنفوذ والجاه، ويساوره شعور دائم بالشك والخوف من الآخر، مما يجعل المجتمع دون دولة في حالة صراع وفوضى وحرب (افتراضية)، حرب الجميع ضد الجميع، ولذا فان الحل بنظره تمثل في نشوء الدولة على قاعدة – عقد اجتماعي- تخلى فيه المحكوم عن حرياته وحقوقه مقابل توفير الحماية له من قبل الحاكم، وهو عقد لا رجعة فيه ، وعلى عكس لوك وروسو يشترط هوبز ان لا إعتراض على الحاكم ولا حرية للمحكوم من أجل تجنب الفوضى وتأمين الامن والسلام، وعلى الحاكم -من وجهة نظر هوبز – ان يوظف غريزة الخوف لدى الفرد كقوة رادعة، و تثقيف رعاياه لتجنب ما يراه هو شراً و خطيرا، مستغلا المؤسسات التربوية والاعلامية والكنيسة.
بالعودة الى التجربة الامريكية وربيبتها العراقية، عبثاً نبحث عن محطة زمنية في التأريخ الامريكي لم يهيمن فيها هاجس الخوف الجماعي من مخاطر مفترضة أو مبالغ بها،و يقلق يوميات المواطن الامريكي اليوم هاجس الخوف من احتمال حصول عملية ارهابية تنفذها منظمة اسلامية في الاراضي الامريكية، ويعيش حالة دائمة من التوتر، لما يردده السياسيون ويمتلئ به الفضاء الاعلامي يومياً. في أجواء الفزع الشعبي يمكن تمرير حزم التشريعات والاجراءات التي تهدف ( حماية المواطنين)، فتلقى قبولا شعبياً واسعاً وجاهزية للتخلي عن بعض الحقوق الدستورية والمكاسب الديمقراطية، ( برنامج التنصت والرقابة الذي كشف عنه سنودن كان فضيحة مدوية للنظام الديمقراطي، ومع ذلك مر دون ان يسبب استياء شعبياً واسعاً، طالما ان المبرر حماية المواطن من الارهاب، بل أصبح سنودن عدواً خطيراً للشعب لنشره الحقيقة).
لا شك في أن من واجب الدولة توعية مواطنيها لما يتهددهم من مخاطر واتخاذ ما يلزم لحمايتهم، إلا أن الادارة الامريكية و بانتقائية واضحة تعمد الى شحن الاجواء بالفوبيا الجماعية من الارهاب الاسلاموي لاستثماره سياسياً، بينما تحرف أنظار شعبها تماماً عن ارهاب و أعمال مسلحة من قبل منظمات متطرفة لاتقل خطورة، ولئلا نبدو وكأننا نطلق الاحكام جزافاً، لنرجع الى وثائق المؤسسات الامنية ذاتها.
استناداً الى التقرير الامني الذي قدم مؤخراً الى الكونغرس عن النشاطات الارهابية في الخمسة عشر عاماً الماضية،بلغ عدد ضحايا الارهاب الاسلاموي 119 أمريكياً في الداخل والخارج، اي بمعدل 8 سنوياً، بينما سقط 106 في عمليات ارهابية نفذتها منظمات ومليشيات اليمين الامريكي المتطرف اي بمعدل 7-8 ضحية سنوياً. في الحالتين هناك ارهاب منظم تقف وراءه ايديولوجيا متطرفة، ولكن في الحالة الاولى يمتلئ الفضاء الاعلامي وخطابات السياسيين بالتحليلات والتقارير اليومية، وفي الحالة الثانية تكاد تكون التغطية الاعلامية معدومة تماماً.
الخطر الأكبر الذي يهدد حياة المواطنين الى جانب الارهاب، القتل الجماعي العشوائي باطلاق الرصاص على المواطنين في الاماكن العامة والجامعات والمدارس ودور العبادة، فحسب احصائيات نشرتها (يو أس توداي) يسقط من المدنيين ما يزيد على 188 سنوياً في عمليات قتل جماعي – أي اكثر من ضحايا الإرهاب الإسلاموي من الامريكان بعشرين ضعفا-، تنسب عادة الى مجرمين يعانون من اضطرابات نفسية وعقلية، ومع ذلك فشلت جميع المحاولات و لعقود في اقناع الكونغرس للتصويت على قوانين تحد من انتشار الاسلحة وخاصة الاوتوماتيكية منها، بل رفض المشرعون ولأكثر من مرة قانونا يمنع شراء السلاح دون شهادة تثبت سلامة الصحة العقلية لحامله.
في اكتوبر عام 2001 وصلت مغلفات بريدية ملوثة بالانثراكس الى مكاتب صحفية و اثنين من اعضاء مجلس الشيوخ، اصيب فيها 12 ومات منهم خمسة أشخاص، وقد كان الاعتقاد حينها انها من فعل القاعدة أو العراق، فكتبت الواشنطون بوست والنيويورك تايمز لوحدهما في شهر واحد 1192 مقالاً أثارت فيه الرعب بين الناس، وما ان حامت الشكوك حول العالم الامريكي بروس ايفن الذي كان يعمل في مخابر الجيش، وتبين ان القضية لاعلاقة لها لا بالقاعدة ولا بالعراق، توقف الاعلام عن النشر فى قضية الانثراكس و لم يعد مهماً أمر تغطية القضية وتوعية الشعب بمجرياتها ، وقد بقي المتهم تحت المراقبة حتى انتحر بعد 7 سنوات.