يكاد يجمع الأكراد على أنهم أمة ظلمتها الاتفاقيات الدولية وحرمتها من إقامة دولة قومية تجمع شتاتها المتوزع بين أربع دول كبيرة وقوية، كما يؤمنون بأن إقامة الدولة هو الإجراء الوحيد الذي يُشعِرهم بأنهم أمة تستحق الاحترام والاعتراف الدوليين.
والأكراد ليسوا وحيدين في الشعور بمثل هذه «المظلومية»، فالعرب أيضاً يعتقدون بأنهم أمة واحدة ظلمتها الاتفاقيات الدولية وقسمتها إلى دول شتى وكان يجب أن ينضووا جميعاً في دولة واحدة. كما سعى القوميون الألمان إلى توحيد المنتمين إلى العرق الجرماني في دولة واحدة وتسببوا من أجل تحقيق هذا الهدف الطوباوي في اندلاع حربين عالميتين مدمرتين من دون أن يحققوه بل تسببوا في تقسيم إلمانيا.
الأمة قيمة معنوية عابرة للحدود بينما الدولة كيان سياسي وإداري محدد وليس ضرورياً أن تكون هناك علاقة بينهما. لا توجد في العصر الحديث أمة تجمعها دولة، بل هناك أمم وقوميات كثيرة ليست لها دول باسمها. في بريطانيا هناك أربع قوميات منضوية في دولة واحدة، وفي بلجيكا قوميتان وسويسرا ثلاث قوميات وإيران خمس قوميات، وبعض هذه القوميات لم يطالب يوما بدولة مستقلة، أما الأخرى فبقيت مطالباتها واقعية ربما لأنها تدرك أن الاستقلال لن يجعلها أكثر أماناً وازدهاراً. في اسكتلندا، رفضت غالبية السكان الاستقلال وصوتت للبقاء ضمن المملكة المتحدة على رغم أن نفط بريطانيا يقع ضمن المياه الاسكتلندية وكان يمكن أن تستفيد اسكتلندا من هذه الثروة لكن غالبية الأسكتلنديين يدركون أن مصلحتهم البعيدة الأمد تكمن في البقاء ضمن دولة كبيرة وقوية، لا في دولة جديدة ضعيفة تكبلها أعباء جديدة.
أوروبا تتجه نحو التوحد على رغم تنوعاتها العرقية والثقافية واللغوية والدينية الشديدة، وحتى فرنسا التي كانت تفتخر بأنها دولة قومية حقيقية، وألمانيا التي حاربت العالم مرتين من أجل الوحدة الالمانية، قررتا الاندماج مع بقية دول أوروبا.
لم تتمكن الدولة القومية أن تكون ممثلاً حقيقياً للأمم المختلفة، والفكرة، وإن بدت معقولة ابتداءً، سرعان ما هوت أمام الواقع وبرهنت بأنها ليست بديلاً عملياً ومعقولاً لدولة المواطنة التي تخدم السكان المختلفين عرقياً وثقافياً ودينياً. وبسبب الحروب التي عصفت بالعالم في القرن العشرين، التي أججتها المشاعر القومية، وحاجة الدول الصناعية إلى الأيدي العاملة العابرة للحدود، لم تعد الدولة القومية خياراً معقولاً لأنها عاجزة عن تلبية حاجات المجتمعات العصرية، فسقطت الفكرة وتخلت عنها الدول الساعية إلى التقدم وخدمة شعوبها.
لا توجد حالياً دولة قومية في العالم، وحتى فرنسا أصبحت خليطاً من أقوام عدة، مختلفة عرقياً ودينياً ولونياً. مدن العالم الرئيسة أصبحت تعُج بالسكان من مختلف الأديان والأعراق والألوان والثقافات وتمتلئ بالمراكز الثقافية التي تروج لثقافات متعددة، والمساجد والكنائس والمعابد المختلفة التي تخدم سكانها المتنوعين، بينما افتتحت الجامعات مراكز أبحاث وأقساما لدراسة الثقافات واللغات والأديان العالمية.
هناك الآن ملايين المسلمين واليهود والمسيحيين والهندوس والسيخ والبوذيين واللادينيين، وملايين العرب والأكراد والإيرانيين والأتراك والهنود والصينيين والهولنديين والفرنسيين والإنكليز والروس والألمان، يعيشون في بلدان أخرى لا يشكلون فيها أكثرية لكنهم لا يشعرون بأن حقوقهم منقوصة ولا يودون العودة إلى بلدانهم الأصلية التي قد لا توفِّر لهم الحقوق المتاحة حالياً.
الدولة التي يطمح الأكراد إلى إقامتها هي فكرة طوباوية غير قابلة للتحقيق، والسعي نحوها أضر الشعب الكردي أيما ضرر خلال المئة عام الماضية، كما أضر بالشعوب المجاورة بسبب الحروب التي نجمت عنه. من المستحيل إقناع تركيا وإيران وسورية والعراق بالتخلي عن أجزاء من أراضيها لصالح قيام دولة جديدة يمكن أن تزعزع استقرارها. كما أن الأكراد شعب متنوع ثقافياً ولغوياً ودينياً، فهناك السورانيون والبادنانيون والفيليون والزازائيون والكرمنجيون والهوراميون، وهناك السنة والشيعة والعلويون والمسيحيون، بينما يتميز أكراد تركيا وإيران والعراق بثقافات متباينة. مثل هذه التنوعات تحتاج إلى رعاية دولة المواطنة وليس دولة قومية تهمش باقي المكونات.
ولو افترضنا أن الدولة الكردية ستقوم في العراق فقط، فإن هذه الدولة ستكون محاطة بالأعداء من كل جانب، وبسبب عدم وجود منفذ بحري لها ستكون ضعيفة دائماً ومضطرة لأن تعقد اتفاقيات مع الدول المجاورة تكون الجانب الأضعف فيها كي تضمن حماية مصالحها الأساسية. وسوف تضطر هذه الدولة، التي لن تكون قومية، لأنها لا تمثل الكرد جميعاً إذ سيبقون يعيشون ضمن دول أخرى، ولأنها تضم أقواماً أخرى كالكلدان والأيزيديين والعرب والتركمان، ستضطر لأن تنفق جزءاً كبيراً من مواردها الشحيحة على التسلح لحماية نفسها.
أحد أهم مبررات قيام الدولة هو وجود مجموعة سكانية تجمعها روابط لغوية أو عرقية أو دينية، أو كلها معاً، ضمن حدود جغرافية معينة، وتكون معرضة للاضطهاد إن بقيت ضمن دولة أخرى. لا يوجد اضطهاد ضد الأكراد في العراق منذ 1991 عندما أقامت الأمم المتحدة المنطقة الآمنة لهم شمالي العراق. ومنذ 2003 أصبح الأكراد يتولون مناصب عليا في الدولة ويشكلون نسبة كبيرة في البرلمان الذي لا يستطيع تمرير أي قانون من دون موافقتهم. وخلال الأعوام الأربعة عشر الأخيرة حصل الأكراد على حصة من موارد العراق تفوق حجمهم السكاني، وتمتع إقليمهم برخاء واستقرار لم تتمتع به باقي مناطق العراق. لذلك لم يعد هناك سبب مقنع لتأسيس دولة كردية سوى تحقيق طموحات شخصية لبعض القادة. الأمة الكردية أكبر من الدولة وبإمكان أبنائها توثيق الروابط بينهم عبر التواصل الثقافي والتأثير في سياسات الدول التي يشكلون جزءا منها.
مصلحة الكرد هي في البقاء ضمن الدولة العراقية الديموقراطية والانتماء الحقيقي لها والتأثير في سياساتها. لكن ما فعله القادة الكرد خلال ربع قرن هو ترسيخ الأوهام لدى الشارع الكردي بإمكان وضرورة قيام الدولة الكردية، وسعوا جاهدين لأن يفكوا ارتباط المواطنين الأكراد بالدولة العراقية بشتى الطرق، متوهمين أن ذلك يخدم أهدافهم السياسية. الطريق المتاح الآن هو أن تبدأ الدولة العراقية، بالتعاون مع السياسيين والمثقفين الكرد المعتدلين، حملة لتوضيح الحقائق للمواطنين الأكراد حول منافع البقاء ضمن العراق والتحديات الكبيرة والخطيرة التي يواجهها مشروع إقامة الدولة.