الأفعى بثلاثة رؤوس

الأفعى بثلاثة رؤوس
آخر تحديث:

 

  ابراهيم الزبيدي

لم يكن العراق وإيران وسوريا واليمن ومصر ولبنان جنان الله على أرضه قبل مجيء ثلاثة، صدام حسين والخميني وحافظ أسد، بل كان فيها كل بلاوي الدنيا وأهوالها وأحزانها، ظلمٌ وفساد وعمالة وفقر وجوع وتشرد وضياع، ولكن الأمن فيها مستتب، والبناء مسترسل، ولو ببطؤ وبغش واختلاس، والتعليم يحاول أن يقف على قدميه، والصناعة تتعلم المشي، والزراعة تنعم بأمطار الله والحكومة، والسجون ليست خاوية من سجناء الرأي وسجناء الجريمة، ولكن لم يكن فيها معتقلون لا يعرف مكانهم أحد، بدون تهم محددة ولا أحكام قضاء، قامت الشرطة السرية باختطافهم من الشوارع أو المنازل أو أماكن العمل ثم يُطلق سراحهم بعد سنين عديدة لثبوت البراءة.

 

كان الموت نادرا وغريبا وعجيبا. فقد كان العراق، مثلا، يهتز كله، من (زاخو لحد الكويت)، حين تقع جريمة قتل في قرية نائية.

 

وكان المرتب الشهري للرئيس لا يزيد عن مرتب فراش في وزارة من وزارات هذه الأيام، ومخصصات القصر الجمهوري بضعة آلاف من الدنانير، والمخابرات ساذجة، وكذلك رؤساؤها، لا تقرأ الممحي، ولم تتقن تلفيق التهم للمعارضين، ولم تتعلم كيف تغتال وزيرا أو سفيرا خارج الحدود.

 

كان المواطن فقيرا، ولكن كان يجد من يعينه على مصاريف أولاده المدرسية، ويرسل إليه معونة الشتاء، وبعضا من الرز والسمن والطحين.

 

وكما يحين القضاء والقدر توجه الخميني وابنه في 5/10/1965 من تركيا إلى النجف، بعد أن رفضت تركيا منحه اللجوء.

 

وفي 17 تموز/يوليو 1968عاد حزب البعث إلى السلطة، وتمكن صدام حسين من انتزاع منصب نائب الرئيس، والقبض على المخابرات والأمن والقصر الجمهوري.

 

وكالمعتاد كان الصراع الخفي أحيانا، والعلني أحيانا أخرى، بين طهران وبغداد لا ينقطع، أياً كان الحاكم هنا أو هناك.

 

كان الشاه رضا بهلوي يصدر السلاسل الحديدية و(القامات) التي يمنعها على شيعته في إيران، ويضخ المال والسلاح لأكراد العراق، ويحثهم هؤلاء وأؤلئك على إقلاق راحة البعث (التكريتي) (العوجاوي) القادم من أعماق القبلية، عنيدا مشاكسا ممتلئا غرور قوة، وثأرُه لا ينام ولا يموت.

 

وفجأة تنبه صدام حسين لوجود رجل دين إيراني مقيم في النجف معارض لشاه إيران اسمه الخميني. فسلط عليه ناظم كزار وسعدون شاكر ومحمد فاضل وبرزان، فنفخوا كثيرا في اسمه، وأغدقوا على أعوانه، وسَيدوه على المراجع الشيعية النجفية كلها، وأمدوه بوسائل التواصل مع رجال دين مثله داخل إيران، لإقلاق راحة الشاه. واحدة بواحدة.

 

وفي عام 1971 بدأ خلاف الخميني مع صدام حسين. فقد أبعدت المخابرات عن العراق عددا من الإيرانيين بتهمة التواصل مع مخابرات الشاه، فأبرق الخميني، ضيفُ الحزب والثورة المدلل، برقية احتجاج شديدة اللغة واللهجة ضد هذه التسفيرات.

 

ومن لا يعرف صدام حسين نخبره بأنه الذئب الوديع المبتسم حين تكون له معك مصلحة، والمتوثب المفترس حين يرى في عينك نقطة سوداء، كما كان يقول.

 

فضيق الخناق عليه، وحرمه من الكلام، ومنع الناس من زيارته، وكان يقطع هواتفه يوما ويعيدها إليه يوما آخر، حتى ضاق ذرعا وقرر الرحيل.

 

لكن صدام تخوف من ضرر هذه المغادرة، فمنعه من الخروج.

 

وفي لقاء ودي بين وزير خارجية الشاه والعراق في 24/9/1978 في نيويورك تقرر طرد الخميني من العراق. وفي 4/10/1978 غادر العراق إلى الكويت. ولكن الكويت رفضت السماح له بالدخول، بطلب من الشاه وصدام حسين.

 

في تلك الليلة كان الخميني، وهو على الحدود، مُحبَطا عاجزا، بلا مال ولا رجال ولا أمل، لا يريد سوى مكان ينام فيه ويقرأ ويكتب بأمان، مُودعا أحلامَ العودة إلى إيران.

 

لم تهتم لخبر خروجه ومأزقه على الحدود العراقية الكويتية سوى جرائد إيرانية ولبنانية قليلة، وبإيعاز من النظام.

 

وهنا، وفجأة، أفاقت إنسانية أمريكا وأوربا، فصار على فرنسا أن تتوكل وتتكفل بالتقاطه واحتضانه واستخدامه لإسقاط الشاه المتمرد الذي انتهت مدة صلاحية نظامه. فوصل الخميني إلى باريس في 6/10/1978.

 

أعطته حق اللجوء السياسي وحرية الحركة والنشاط. ووافقت على طباعة ملايين أشرطة الكاسيت التي يدعو فيها إلى الثورة ضد الشاه، وقامت مخابرات الغرب وتركيا بتهريبها لتصل إلى أبعد قرية في إيران.

 

في 16/1/1979 هرب الشاه، وفي 1/2/1979وصل الخميني على طائرة (إير فرانس) مظفرا. وفي 16/7/1979 تسلم صدام حسين الرئاسة وكلَّ شيء في العراق.

 

وهنا يمكن القول إن ثلاثة أرباع دوافع الخميني إلى تصدير الثورة إلى العراق، ومنه إلى ما وراءه، ودعوته إلى مشروعية طلب ثارات (المظلومية) الشيعية التاريخية من الـ (ظالمية) السنية، كانت دوافعَ شخصيةً منبتها الاصطدام بين تكوينه العنادي الثأري القوي وبين صدام الذي لا نحتاج إلى تفصيل ظروف ولادته ونشأته وطفولته وصعوده من آخر صفوف الحزب إلى القيادة العليا الواحدة التي لا شريك لها فيها.

 

وإذا تجاوزنا جذور الإرهاب العربي الإسلامي التاريخية الموغلة في القدم، وأتينا إلى وضعه المتفجر الحالي، وما فعله ويفعله من تدمير شامل كامل لأسس التمدن المتواضعة التي كانت قد بدأت تتشكل في العراق وسوريا، بشكل خاص، وفي الدول العربية الأخرى، فسوف نجد أن الخميني وصدام حسين وحافظ أسد تبادلوا قصب السبق في توليد العصابات والمليشيات والفصائل المناضلة من أجل التحرير والمقاومة والممانعة والصمود، وتحول الخطف والاغتيال وتفجير الجامعات والسفارات وتهريب المعارضين إلى جهاد مقدس، ليصبح أبو نضال وبن لادن والزرقاوي وحسن نصر الله أبطالا مخلدين.

 

لقد دشن الثلاثة عهدا جديدا من عمر الإرهاب العربي الإسلامي، وجعلوه إرهاب الدولة الرسمي الوطني الديني القومي المقدس. ويومها أصبحت (القدس) و(الأقصى) و(فلسطين) الأسماء الحسنى لأهم فصائل (المجاهدين).

 

صحيح أن الاحتلال الإسرائيلي وما فعله بالفلسطينيين من قمع وقهر كان الذريعة التي تشدق بها الإرهابيون العرب والمسلمون الجدد إلا أن إرهابهم العربي الإسلامي المقدس لم يستهدف الإسرائيليين إلا في أضيق الحدود.

 

نعم لقد استنهض إرهاب الصهاينة شبابا فلسطينيين يفقدون صبرهم حين يرون العالم المتمدن يسمي جرائم القتل اليومي الصهيوني دفاعا عن النفس، ويسمي خطف طائرة هنا أو تفجير سيارة هناك إرهابا يستحق أشد أنواع العقاب. ولكن جميع ما تبنته المنظمات الفلسطينية المسلحة من عنف ودموية وتطرف لم يمس مواطنا عربيا أو مسلما إلا بعد أن تقاسم الخميني وصدام حسين وحافظ أسد فصائل المقاومة والممانعة والصمود.

 

وهنا فقط أصبح ممكنا لنا أن نحدد رؤوس الأفعى الثلاثة التي أفرخت مئات الالاف بل ملايين الأفاعي والثعابين التي تنفخ سمومها اليوم في جسد العراق وسوريا ولبنان واليمدن ومصر وليبيا وفلسطين.

 

وداعش والنصرة والقاعدة والإخوان المسلمون، في الشق السني من الجهاد، وفيلق القدس والحرس الثوري وحزب الله اللبناني وفيلق بدر ومليشيات العصائب وأبي الفضل العباس وحزب الله العراقي وحماس والحوثيون وأنصار الشريعة وعشرات المليشيات والتنظيمات والخلايا النائمة والصاحية الأخرى، في الشق الشيعي منه، ليست كلها سوى زراعة الثلاثة بامتياز.

 

الأول مات ولكنه خلف نظاما يعاند الزمن ويقاتل التاريخ ويناطح الجغرافيا. والثاني انتهى على مشنقة أعدائه الخمينيين، ولكنه ورَّث العنف والتطرف والعصبية لآلافٍ من أعضاء حزبه المطرود من السلطة، بعضهم مع داعش، وبعضهم مع بشار، وأنفارٌ منهم مع أمريكا أو السعودية أو تركيا وإيران. وأما الثالث فواقفٌ يعاند المصير.

 

وتسألون عن الحل؟. لا حل ولا أمل في عودة العافية إلى أحد منا ومنكم قبل أن يسقط الملالي، ويُشنق بشار، ويوارى عزة الدوري وأحفادُه أجمعين؟.

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *