القرن الواحد والعشرون أعلن ومنذ البدء أنه قرن الكذب الفتاك , فمنذ الأيام الأخيرة من القرن العشرين وحتى الساعات المتبقية منه , مضت البشرية تحت تصورات كاذبة بأن شيئا مروعا سيحصل حال إبتداء القرن الجديد , وكانت الساعة الأخيرة من القرن العشرين ذات قلق شديد وترقب وتوجس وإضطراب , وأذكر تلك الليلة التي كنت خافرا فيها ومتأهبا للطوارئ حيث تم إعدادنا وتأهيلنا لمواجهتها.
وكان معي أستاذ آخر مضى يردد “إنه يوم كغيره من الأيام”!!
وتساءلنا في الساعات الأولى للقرن الجديد عن فحوى الإستعدادات والرعب الذي تملّك القلوب والنفوس , فقال: إن الكذب سلطان!!
وفعلا كان يوما كباقي الأيام , لكن القرن ومنذ خطواته الأولى لم يكن المطلوب منه أن يكون كباقي القرون , لما إمتلكته البشرية من قدرات تقنية وعلمية غير مسبوقة , فالتقنيات التواصلية قد بلغت ذروتها في التأثير على عقول ونفوس البشر.
وصارت هذه الوسائل أوساطا متاحة لصناعة الكذب الفتاك في الأمم والشعوب , وبدأ القرن بما بدأ به من الأحداث الجسيمة , التي تولدت عنها أحداث أجسم وأفظع , ولا تزال في تصاعدها وتطوراتها التدميرية الفائقة , وخصوصا في المنطقة العربية التي شهدت أول تعبير عن الكذب الفتاك.
فقد كان إحتلال العراق مبنيا على أكاذيب وفبركات تم وضعها في أطر سياسية وعدوانية لتدمير البلد عن بكرة أبيه , وبعد أن إنكشفت الفرية , تحقق الإجتهاد في الإلتفاف عليها وذلك بإقامة الديمقراطية وإطلاقها في المنطقة , وبذلك رفع شعار تعميم تجربة العراق على المنطقة بأسرها , وقد تحقق ذلك بدقة متناهية وقدرات خلاقة.
ووفقا لآليات الكذب وقدرات تعميم الأكاذيب والإشاعات تمزقت دول وتساقطت أنظمة , وإنطلقت الحروب الداخلية وصار الدين مصدرا للبلاء والفناء , ولا تزال إسطوانات الكذب الفتاك تعزف ألحانها وتجد العديد من المساكين الذين يستمعون إليها , ويطربون ويتراقصون حتى الموت على إيقاعاتها الصاخبة المدججة بالعواطف والإنفعالات المتأججة.
وتجدنا اليوم أمام محنة الكذب كسلوك يومي على جميع المستويات الفردية والجماعية والدولية , وحتى في باحات الأمم المتحدة تحوّل الكذب إلى أدلة وبراهين , لتسويغ الجرائم والحروب والتدمير الهائل للعمران والإنسان.
فلكي تقوم بأفظع الجرائم , عليك بالكذب ثم الكذب حتى يصدقك الآخرون ويكونون معك , فيؤيدون جرائمك ويهللون لما تقوم به , لأنه قد إتخذ مسمى آخر , ومعنى جدير بما تقوم به من الآثام , فلكي تقتل عليك أن تُسمي وتنقل صورة ذات طاقات إنفعالية عالية , وبذلك يمكنك أن تبيد الملايين تحت ذاك المسمى , وهكذا ستمضي جرائم هذا القرن المتوج بالأكاذيب الخلاقة جدا والفتاكة دوما!!