عــلــي حــســن الفــواز
موضوع تحقيق المخطوطات من المسائل الاشكالية التي تفترض حيازة معرفية واسعة، ومسؤولية مهنية وعلمية وبحثية يتقصى من خلالها الباحث معرفة المقارنات والمقاربات، والسياقات التي يتموضع فيها النص التاريخي..الباحث قاسم محمد عباس من أهم الباحثين العراقيين الذين اشتغلوا في مسائل التحقيق المخطوطاتي، وفي دراسة مرجعياتها الوثائقية والتاريخية، فاهتمامه بموضوعات التصوّف والمتصوفين ينطلق من اهتمامه بالجوانب المعرفية والتاريخية لمخطوطة التصوّف، بوصفها مجالات للدراسات البحثية، والمقارنة، وللدراسات الاستشراقية إذ أدرك أهمية البحث العلمي في هذا الاتجاه، مُنفتحا على تعالقات النص الصوفي مع الأثر السياسي والثقافي والمعرفي، وباحثا في حيثياته، وناقدا لكثير من نظرياته وأطروحاته، لاسيما ما طرحه المستشرق ماسينيون حول مقاربات التصوّف الاسلامي..اعتماد المنهج العلمي القائم على الجمع والدرس والبحث، وتقصي المصادر في مظانها هو الخيار الذي أدرك مسؤولياته الباحث عباس، باتجاه تقعيد مسار دراساته، وحفرياته، إذ وجد عبر تقاناته التنقيبية للمخطوطات مستويات متعددة لنصوصها، يشتبك فيها البعد التفسيري مع البعد التأويلي، وهي مسائل تخصّ طبيعة الدراسات الثقافية التي تُعنى بموضوعات المجاورات النصوصية من جانب، والكشف عن علاقة التصوّف بموضوعات السلطة والحرية والجسد والتدين، وهي من أكثر القضايا الاشكالية إثارة للجدل..
في مقاربته لنصوص الحلاج، ولرسائل إبن عربي، ولاشراقات السهرودي وصوفيات البسطامي حاول الباحث اجراء مايشبه المراجعة التاريخية لمفاهيم الاصطلاحات والأفكار، لاسيما ما يخصّ التوصيف التعبيري والدلالي ل (الشطحات، والمناجاة، الحلول، العرفان، الاحسان، المواجيد والأشواق، الكرامات وغيرها) ومن خلال ما يخصّ السياق الذي تتحرك فيه، فضلا عن نظرتها الى التراث، والى الواقع، والى السلطة، فهذه النصوص في خاصيتها الكلامية والاجتماعية والدينية، ليست بعيدة عن الأفكار العميقة، وعن تمثلاتها السياسية والنفسية والدينية، وعن شفراتها التي سعى الباحث الى استقراء محمولاتها ورسائلها، وحتى دراسته لسير المتصوفة لا تخرج عن هذا السياق، لأنها تتجوهر حول أفكار نظيرة، والتي تتقصى موضوعات البحث عن الحقيقة والوجود والخلق..
سرديات البحث عن المعنى..
اهتمام قاسم محمد عباس بالاستشراق والتصوّف لايعني كفاية معرفية بجانبٍ مهمٍ من جوانب المسكوت عنه في تاريخنا، بل يعني أيضا وعيا بوجود علاقة عميقة مابين التصوف في منزعه الثقافي وبين السرديات التي يحفل بها ذلك التاريخ، لاسيما التاريخ الذي تكتبه السلطة، أو التاريخ الذي يكتبه السلاطين والفقهاء، أوما يكتبه علماء الكلام من جدل حول التاريخ، فالمثقف لاتاريخ له، وأّنّه يدرك أنّ لهذا التاريخ تعالقا خاصا ب(الهوية) وبالوجود، فهو يكتب لكي يحفظ أثره الشخصي، أو رؤيته التي تضيق بها العبارة كما يقول النفرّي، وهذا مابدا واضحا في اشتغالات عباس على مستوى كتابته لرواية( المحرقة) فهي جزء من سرديات البحث عن المعنى الثقافي لوجوده، ومن خلال معالجة محنة الانسان العراقي في سنوات الحرب العراقية الايرانية، إذ هي متاهة اغترابية للإنسان، وللمكان، وشقاء للروح، وتضليل للفكر، ورعب المصير، فالبطل المثقف هو ذاته الباحث عن وجوده ومصيره، والحالم بحريته، والذي يشبه الى حدٍ بعيد كثيرا من أبطال التصوّف الذين وقفوا في استعاراتهم وشحطاتهم، وفي نزوعهم للتعالي والحلول تمثّلا لفكرة الحرية ذاتها، فهم ضحايا لتلك الحرية، مثلما هم متمردون على رعب السلطة، وعلى عنفها السياسي والثقافي، وأنّ (فتوحاتهم) و(اسفارهم) و(كشفهم للمستور) هي الجوهر الكلامي، والرؤيوي لهذه المواجهة..
الاستشراق والنقد..
موقف الباحث قاسم محمد عباس من الاستشراق ينطلق من رؤية نقدية دقيقة، ومن معاينة موضوعية لأطروحات المستشرقين، لاسيما ماسينيون، والذي حاول أنْ يقلل من(الشأن الميتافيزيقي) في التاريخ التصوفي العربي والاسلامي، إذ عمدت مثل هذه الأطروحات الى التقليل من شأن العمق الروحي للتصوّف الاسلامي، ولهويته الثقافية، ومن خلال جملة من التعارضات التي تخصّ المعنى الديني ومرجعياته، فضلا عن وسمه للتعالق مابين التصوّف والخطاب ب(الغلو) حيث يبدو المتصوّف فيها وكأنه قريب من الدوغمائية، بعيدا عن أية قراءة نسقية للخطاب الصوفي، ولتمثلاته العرفانية والرسالية، والتي تُعنى بالذات العارفة المؤمنة، وبوصفها ذاتا قوية وغير ميّالية للضعف والاستسلام، وهو ما وضع اغلب المتصوفة في سياق الجماعات المعارضة للسلطة والقمع، وللغلو الفقهي، وبما يُعطي لمواقف ومواجد المتصوفة طابعا ذا شفرات سياسية وثقافية تدرك العمق الخطابي للمواجهة مع الظلم والاستبداد والقمع والكراهية..
اهتمام الباحث قاسم محمد عباس بالحلاج وإبن عربي بشكلٍ خاص يعني اهتمامه بمعطيات تخصّ جوانب فكرية بدت فاعلة في الحِجاج وعلم الكلام الاسلاميين، مثلما بدت في المسائل التي تخصّ العقائد والعبادة، والتي لايمكن فصل دراستها عن دراسة المشروع الصوفي الاسلامي، ولا عن طبائع شخصيات المتصوفة ذاتهم، بوصفهم فاعلين ثقافيين في السياق، وفي التاريخ الذي تحولت فيه السلطة الى قوة عنفية، والى مركز للاستبداد والقوة..
وهذا مايؤكد أنّ منهجية البحث والتقصي التي اعتمدها الباحث عباس كانت تعتمد في تقاناتها الاركولوجية على محاولة ايجاد تعالقات مابين التصوّف والسياق، وتعارضات عميقة مابين التصوّف والسلطة، وبما يُعطي أهمية بالمقابل الى الثقافية المعرفية والكشفية والتخيّلية التي قدّمها المتصوّفة لتاريخ المعرفة العربية الاسلامية.