لا يلوم أكراد العراق إلا أنفسهم إذ تحالفوا مع المجموعات السياسية الحاكمة على أسس قصدت، حصرا، تخريب العراق ونهبه.كان لديهم تصوران، واحدهما أسوأ من الآخر. الأول، هو أن تخريب العراق مفيد لتمييز كردستان. وهو التصور الذي ساد طوال الفترة من العام 2003 حتى العام 2017 عندما تم التخطيط لإعلان الانفصال عن العراق. والثاني، هو “مع مَنْ نتحالف، غير هذه العصابة”. وهو التصور الذي يقصد القول إنه لا توجد قوى وطنية مؤهلة. بينما الحقيقة هي أنه لا توجد رؤية وطنية مؤهلة، كما لم يُظهر الأكراد استعدادهم للقبول بها أو تبنيها أصلا، بسبب رغباتهم الانفصالية.
الآن، عندما يجد الأكراد أنفسهم وقد “أضاعوا المشيتين”، فلا حصدوا انفصالا، ولا حصدوا “دولة اتحادية”، فلأنهم تعمدوا أن يسلكوا السبيل الخطأ، على الوجهين معا، بينما يظنون أنهم يفعلون الصواب.والصواب، لا يحتاج عبقرية، للأخذ به، بينما الخطايا هي التي تحتاج إلى كل أحابيل الخداع والزيف وأعمال الفساد وتبريراتها لكي تتحول إلى منهج سياسي. أي أنها تحتاج من كل دجّال ونهّاب ونصّاب، أن يكون عبقريا لكي يؤسس دولة على مقاسه. وهذا ما حصل.
عندما تكون كردستان العراق في وضع أخلاقي سليم، فإنها سوف تعرف مع مَنْ تتحالف، وعلى أي أسس، ولسوف يكون بوسعها هي أن تفرض الشروط، لا أن تفرض عليها، نظام “المحاصصة الطائفية” كان هو الأساس الذي قام عليه النظام الجديد وفكرة “الدولة الاتحادية”. صار الأمر يتعلق بمقدار ما يكسب هذا الطرف أو ذلك من “حصص” لصالحه، مقابل التواطؤ السياسي مع الآخرين.
لا يحتاج الأمر عبقرية من أحد أيضا ليرى أنه لا توجد دولة اتحادية على سطح الأرض تقتفي هذا السبيل، على الإطلاق. ولكن “العشائرية السياسية” في كردستان، على غرار “الميليشياوية السياسية” في باقي العراق، سمحت بأن يكون العراق نهبا للفوضى والمساومات المؤقتة، والتوطؤات الدائمة، من أجل المزيد من تقاسم “الحصص”.
تبكي رئاسة كردستان على “حصتها” من ميزانية العراق. وصار الآخرون الذين تم التواطؤ معهم على نهب العراق ككل، يستكثرون أن تكون لكردستان حقول نفط خاصة بها، وعائدات تأتي من هذه الحقول. وبالنظر إلى أن “ثقافة النهب” كانت هي معيار الإدارة في كردستان، على غرار أختها في باقي العراق، فقد أصبح من الطبيعي تماما، أن تنتقل تواطؤات المحاصصة إلى بيع النفط لتركيا بسعرين، واحد منخفض عن أسعار السوق لإرضاء سلطة رجب طيب أردوغان، وآخر أكثر انخفاضا منه، لإرضاء الحسابات الشخصية. ولكنْ، وكأي عمل خبيث من هذا النوع، فإنه يجلب مصائبه معه، حتى صار يسمح لسلطة أردوغان أن تمارس كل ما تشاء من أعمال الابتزاز، وأن تعامل المسؤولين الأكراد بمقدار واضح من الاحتقار، لأنها تعرف ماذا كانوا يفعلون بأموال شعبهم.
بناء دولة، فيدرالية أو غير فيدرالية، يحتاج إلى مسالك قويمة، تكرر، في أقل تقدير، مسالك الصواب السياسي التي تحتكم إليها الشعوب الأخرى.بمعنى، أنك إذا لم تكن تمتلك الكفاءة الثقافية أو الفكرية لبناء نظام قائم على قيم أخلاقية وقانونية رفيعة، فيمكنك أن تكتفي بالتقليد على الأقل.لم يكسب الأكراد هذا، ولا كسبه العراقيون. من ناحية، لأن أطقم السياسة التي هيمنت على مصائرهم، فاسدة من الأساس، ومن ناحية أخرى، لأن الأكراد ظنوا أن ذلك مفيد لهم، لاسيما وأن أطقمهم الخاصة كانت راغبة بالفساد، فأفسدت على نفسها وعلى شعبها في آن معا.
هل يمكن الآن، إيجاد سبيل لنظام جديد؟
يبدو الأمر مستحيلا، بعدما أصبح الفساد هو النظام. ولكن الجواب: نعم. عندما يقرر الأكراد أن يحكموا إقليمهم وفقا لمعايير المواطنة، في نظام يقوم على احترام قيم العدالة وسيادة القانون، واحترام النفس أمام دول الجوار بحيث لا يبقى مسؤولون معرضون للابتزاز أو الاحتقار، فإن عدوى هذا النظام يمكن أن تسري في جسد العراق المريض، فتدل شعبه على أن هناك سبيلا قويما يمكن الأخذ به، كما يمكن فرضه على الذين يحكمونه.دولة المواطنة، تعني أن عائدات كردستان، سواء جاءت من الميزانية العامة للعراق، أو من عائدات النفط في الإقليم، يجب أن تُقسّم، على مواطنيه الأكراد، بمقدار صارم من العدالة، وأن تخضع حسابات الإقليم لإشراف برلماني وشعبي لا يقبل المساومة، وأن تكون هناك هيئات حكومية مستقلة، تشرف على الإنفاق وتراقبه.
إذا لم تكن تمتلك الكفاءة الثقافية أو الفكرية لبناء نظام قائم على قيم أخلاقية وقانونية رفيعة، فيمكنك أن تكتفي بالتقليد على الأقل، إلغاء مبدأ “الحصص” العشائرية أو السياسية أو المناطقية، لا يعني فقط أن تتوزع العائدات والموارد على “رؤوس المواطنين” جميعهم بالتساوي، ولكنها تعني أيضا أن تتوزع الإدارات على أساس الأهلية والكفاءة، ابتداء من نظام قضائي مستقل عن الأحزاب.
يمكن لكردستان أن ترفض مبدأ المحاصصة، وأن تعلن تخليها عنه، فيكون ممثلوها في الحكومة الاتحادية، منتخبين على أساس الأهلية والكفاءة، وليس على أساس “حصص” الحزبين الكبيرين. وهو الأمر الذي ثبت أنه فخ أوقع بمصالح الإقليم، من دون أن ينفع الحزبين. لاسيما وأن تجارة التواطؤ والمساومات صار بوسعها أن تبيع وتشتري النخاسة السياسية بين هذين الحزبين.الانفصال الذي لم يكن يحتاج إلى عبقرية لتعرف أنه مستحيل في ظروف الرفض الإقليمي من جانب تركيا وإيران، فقد كان يحتاج إلى “عبقرية” استثنائية لتخريبه، عندما تحوّل إلى فقاعة من سوء التدبير والفهم والانفعالات الهائجة.
نظام “الدولة الاتحادية” لا يحتاج، بدوره، إلى عبقرية، لإعادة بنائه. وذلك عندما يتم بناء السلطة الاتحادية في كردستان، هي نفسها، على أسس جديدة، تنبذ “المحاصصة” وتحرم الفساد، وتستند إلى هيكل إداري مدني قائم على أساس الكفاءة، لا الارتباطات الحزبية. كما تستند إلى نظام قضاء يحمي سلطة القانون. ولكي لا يبدو الأمر وكأنه مشروع لمطاردات انتقامية، فإن عفوا عاما يمكن أن يسبق فتح صفحة جديدة.عندما تكون كردستان العراق في وضع أخلاقي سليم، فإنها سوف تعرف مع مَنْ تتحالف، وعلى أي أسس، ولسوف يكون بوسعها هي أن تفرض الشروط، لا أن تفرض عليها.كان الشاعر يقول “لا تربط الجرباء حول صحيحةٍ – خوفا على تلك الصحيحةِ تجربُ”، سوى أن علاج واحدة منهما يمكن أن يشفي الثانية.