الأثر الأجنبي في تاريخ المسرح العراقي

الأثر الأجنبي في تاريخ المسرح العراقي
آخر تحديث:

د. ضياء خضير

الحديث عن المسرح العراقي خلال فترة طويلة تبلغ حوالي مائة عام من تاريخه، كما هي الحال في كتابنا الأخير عنه، متشعِّب وطويل، ولا يمكن لباحث مهما بذل من جهد وطاقة أن يدّعي الوصول فيه إلى الكمال، لا.. لأن هذا المسرح يمتاز بالخصب والنماء، ولا لأنه يضمُّ تراثاً واسعاً عريقاً، بل لأن هناك دائماً جوانبَ عديدة تستدعي البحث والتنقيب سعياً وراء مصادرها الأصلية والثانوية، سواءً أكانت هذه المصادر أجنبيّة أم محلية، معاصرة أم تنتمي إلى الماضي.وهكذا، لابدَّ من الاعتراف أنه رغم الأهمية القصوى التي تحتلها بعض الفنون الدرامية في الحياة الشعبية العراقية، فإنها لمْ تستطع أن تخلق لنا أدباً مسرحياً يمكن الاعتماد عليه في أية دراسة منهجية. فإذا أستثنينا “التعزية” التي أفردنا لها مبحثا بسيطا، فقد كانت هذه الفنون جميعا ارتجالية لا أثر فيها للنص المكتوب، فهي تعتمد على الحركة والإيماء بشكلٍ أساسي، وليس لها قواعد وأصول متّبعة ومتطّورة، ومن ثمَّ لا يمكن إعتبارها “مسرحاً” بالمعنى الدقيق للكلمة، على الرغم من أنها تشّكل قاعدة هامة لأعمال مسرحية لاحقة.
ولئن كان ما وصلنا من تراث العرب الأدبي قبل الإسلام لا يزيد على قصائد شعرية ذات طابع بدوي في لغتها وصورها وتصوراتها الوجودية العامة، فيما شكّل الفن المسرحي ركنًا أساسيًا في التراث الفني والأدبي والفلسفي والأسطوري والملحمي اليوناني الذي اعتمدت عليه أورپا القرون الوسطى في نهضتها الحضارية الشاملة، فإن ذلك كفيل ببيان الكيفية التي يحتل فيها الفن المسرحي ذو الطبيعة الجمعية لدى الغربيين مكانة رفيعة في البناء الثقافي والاجتماعي الغربي، في حين بقيت الصورة الوجدانية للقصيدة العربية تمثّل صوتَ الشاعر الفرد وذاته المغرقة في التأمّل الوجداني والتبجُّح الخطابي الذي لا ينتمي فيه الشاعر لغير نفسه وقبيلته.وهي تختلف بالتأكيد عن مبدأ الحوار المسرحي الذي يخرج فيه الشاعر من أسوار عزلته الذاتية ليقيم حوارًا مع نفسه ومع الآخر، سواء كان هذا الآخر سلطة دينية أم سياسية أم اجتماعية. وهو أمر لم يكن متاحًا لشاعرنا و”مثقفنا” العربي بنفس الطريقة حتى حينما خرج من صحرائه وعاش في مدينة كبيرة مثل بغداد ودمشق والقاهرة وقرطبة خلال تلك القرون “الوسطى” إلا في حدود ضيقة.
ومن هذه الزاوية نجد أنفسنا أمام حقيقة ثابتة، وهي أن ما اصْطُلحَ على تسميته بـ “الأدب المسرحي” لم يتوفر للحياة الثقافية العربية إلا بعد ظهور النص المسرحي المنقول عن الغرب.وكتابنا هذا محاولة لدراسة الأثر الأجنبي في هذا المسرح من وجوهه المختلفة، المتصلة بالعلاقة مع النصوص الأجنبية، والكيفية التي يتم فيها تقديمها في بيئة اجتماعية وثقافية مختلفة، على صعيد الموضوع والتمثيل والإخراج والسينوغرافيا أو الفضاء المسرحي بكل تقنياته وتفاصيله ضمن الهدف المحدد في هذه الدراسة. وهو هدف يجري التركيز فيه على النص المسرحي، وما يتصل به أو ببعض نماذجه المترجمة والمعدة والمؤلفة في المراحل التاريخية المختلفة منذ أواخر القرن التاسع عشر حتى الثمانينات من القرن الماضي، أو على وجه التحديد بين عام 1880 الذي ظهرت فيه مسرحية لطيف وخوشابا المعدة عن المسرح الفرنسي، وعام 1980 الذي كان بداية الحرب العراقية الإيرانية التي توقف فيها المسرح العراقي أو اتخذ مسارات واتجاهات أخرى.
لقد كان المسرح، في الواقع، ثمرة من ثمرات الاتصال الحضاري بين الشرق والغرب، ذلك الاتصال الذي أعقب الحروب الصليبية، وحملة نابليون على مصر، والنشاطات التبشيرية، ثم الفتوحات الاستعمارية التي خضعت لها أغلبُ مناطق العالم العربي، ومنها العراق.ومع تطور النشاط المسرحي في العراق واتساعه واقترابه شيئاً فشيئاً نحو فهم أوسع لمتطلبات الدراما وشروطها، يُصبح من اللازم أن نبحث في الأصول التاريخية الكامنة وراء ذلك، والتي جعلت المجتمع العربي بشكل عام، والعراقي أو فئات محددة منه بشكل خاص، يتقبل هذا الفنّ الطارئ ويمدّه بأسباب البقاء. لأن الفن المسرحي، كما هو واضح، نتاج الواقع وحصيلته الحضارية التي تنعكس فيها صفات الأمة ومميّزاتها الخاصة على صعيد اللغة والموضوع وأسلوب الخطاب. إذ لا يمكن لفن من الفنون أن يزدهر في مجتمع من المجتمعات بمجرّد النقل والاقتباس، وإنما ينبغي أن تكون الظروف مهيّأة لأستقباله وإمداده بأسباب الحياة. وذلك يتطلب دراسة الظروف الحضارية التي ساعدت على ظهور هذا النوع الأدبي الجديد (gerne littéraire)، والتغيرات التي أصابت البنية السياسية والإقتصادية والاجتماعية في نهاية القرن التاسع عشر، وبداية القرن الماضي، وأثرُ كل ذلك على المناخ الفكري والثقافي السائد في البلاد.
إن تبادل الأشكال الثقافية هو نتيجة منطقيّة للاتصال الذي يتم بين المجتمعات المختلفة؛ والعامل المهم لدينا ليس هو أن المسرح العربي – كشكل فني – مستعار من الغرب، وإنما الكيفية التي يتم فيها استخدام هذا الشكل في النصوص العربية والمعرّبة، وذلك عن طريق الكشف عن العناصر الأجنبيّة في هذه النصوص من ناحية، والعناصر المحلية الداخلة في تكوينها، من ناحية أخرى.وبما أن الأمر في هذا النوع الأدبي الدرامي لا ينتهي بقراءة النص على الورق، وإنما يتعدّاه إلى محاولة رؤيته مجسِّداً على الخشبة، أو قياس إمكاناته الدرامية، يمكننا أن نتصور حينئذ الجهد الذي كان على الباحث بذله لينتهي إلى نتائج معقولة في بحثه.وربما سيكون من الأفضل أن نترك هنا أمر تقرير أهمية هذه النتائج إلى غيرنا، واضعين في الاعتبار ما كان يخامرنا من شعور بأننا كنا نجوسُ في أرض بكرٍ في مساحات غير قليلة منها خلال بحثناً. وقد كانت كتابتنا عن بعض النصوص المسرحية العراقية الأولى وإجراء مقارنات بينها وبين أصولها الفرنسية عملًا أصيلًا لم يسبق إليه أحد من الباحثين قبلنا حسب علمنا، كما كانت إشارتنا إلى ما انطوت عليه بعض جوانب تراثنا العربي كتلك التي وجدناها في بعض أحاديث ابن دريد أو”مقاماته” من إشارات لوجود ألعاب خيال الظل والعمل به في بصرة القرن الثالث الهجري – التاسع الميلادي، جديدة لم يسبقنا أحدٌ إليها فيما أظن ضمن الجهد المبذول لتأصيل بعض الظواهر والنشاطات المسرحية في تراثنا العراقي والعربي القديم، فضلا عن دراستنا المقارنة الأخرى التي حاولنا فيها ملاحقة الأثر الأجنبي في النصوص الدينية والتاريخية والاجتماعية والدرامية الأكثر حداثة في تاريخ المسرح العراقي بمراحله الزمنية المتعددة.
لقد اقتبستْ البرجوازية العربية الشكلَ المسرحي من الغرب، وظلت جميع أشكال التعبير الدرامي المحلي ذات الطابع الشعبي الموروث عن الماضي عاجزةً عن نقض هذه الحقيقة. وقد اتخذت هذه البرجوازية المسرحَ وسيلةًّ من وسائل التعبير عن مطامحها؛ يؤكدّ ذلك ما نصادفه عند المسرحيين العراقيين الأوائل، مثل غيرهم من المسرحين العرب، من عناية باللغة، وبالجانب الديني والتعليمي والأخلاقي.
وفي فترة لاحقة كان الرجوع إلى التاريخ والتراث يقع ضمن هذه الرغبة في اتخاذ هذا النوع الجديد وسيلةً من وسائل النهوض القومي. ومع ذلك فقد رأينا أنه كان من الصعب على الكتَّاب العراقيين الذين ظهروا بين الحربين أن يخلقوا دراما تاريخية حقيقية على لطريقة الأوربية التي حاولوا تقليدها؛ أي دراما تُثير الحاضر عن طريق تناولها للماضي، وتستطيع أن تطرح، عبر ذلك، أزمة التاريخ الوطني والظرف الحرج لحياة الشعب العراقي، والناجم عن التخلّف والاستعمار والتجزئة والتسلط الحزبي والفردي، والطابع العشائري المهيمن على العلاقات الاجتماعية في البلاد منذ قرون. وهذا الضعف العام الذي كان يُضفي مسحة تجريدية على المسرحية التاريخية ذات الأهمية الخاصة في تاريخ المسرح العراقي، يكشف عن ضعفٍ آخر في علاقة الكاتب المسرحي العراقي بالواقع المعيش. وقد بيّن “جورج لوكاش” في كتابه “الرواية التاريخية” أن علاقة الكاتب بالواقع التاريخي لا يمكن أن تكون مختلفة مبدئياً عن علاقته بالواقع عموماً. ومن المعروف أنه كلَّما كانت علاقة الكاتب بفترة تاريخية معيّنة أعمقَ كان أكثرَ قدرةً على التحرّك داخل موضوعه، وأقلَّ شعوراً بالمعطيات التاريخية المباشرة.
لقد كانت عبقرية “والتر سكوت”، على سبيل المثال، تكمن في أنه أعطى الرواية التاريخية الأوربية تلك الأفكار التي تسمح لها ب “الحركة الحرّة” حسب تعبير لوكاش، وبذلك مهَّد الطريق لتطوّرها؛ في حين أنّ التقاليد الثقيلة والأفكار المشوَّشة التي كانت لدى الكاتب العراقي عن التاريخ والدراما التاريخية قد أعاقت حريَّة التحرك هذه، ومنعت حتى بعض المواهب الأصيلة، كتلك التي لدى سليمان الصائغ وخالد الشواف من أن تتطوَّر. ولهذا فحين حاولت المسرحية الاجتماعية التي رافقت المسرحية التاريخية أولاً، ثم ازدهرت هي الأخرى خلال سنوات الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي، أن تتجه بأنظارها إلى الواقع المعيش، فشلت، هي الاخرى، وسقطت في مطب التقليد للميلودراما الأوربية العنيفة حينا، والرومانيتيكية الحالمة حينا آخر.
وظلت المسافة بين التعبير المسرحي والواقع الاجتماعي في أغلب النصوص واسعة، بعيدة. وبعبارة اخرى، فإن هذا المسرح كان بعيدا عن عكس روح الواقع العراقي وحقيقة الشخصية الوطنية وهمومها الاجتماعية على نحو كافٍ، على الرغم من أن الجهود التي بذلتها الفرق المسرحية المختلفة خلال هذه الفترة قد اسهمت في تثبيت وجود هذا النوع الأدبي الجديد. وعلى الرغم من أن بعض رجال المسرح كموسى الشابندر، وشهاب القصب قد نجحوا بالفعل في إضفاء شيء من الحيوية والخصوبة على أعمالهم المسرحية، فإن الأوضاع الاجتماعية والثقافية العامة لم تكن مهيأة لتطوير هذا النوع الأدبي والدرامي الجديد، وجعله أداة حقيقية من أدوات الوعي أو “مدرسة الشعب”، كما يتم الإعلان عنه دائما.ومع تقدم الوقت، أحدث ازدياد الاحتكاك بالحضارة الأوربية نوعا من الوعي بالذات والواقع المعيش بطريقة أكثر حدة، وانطلق عديد من الكتاب يعيدون النظر في الاوضاع القائمة ويتطلعون إلى تغيير بعض العادات والتقاليد لأنها لم تعدْ تتلاءم مع الواقع الجديد، وتعوق حركة التقدم إلى الأمام. وظل المسرح في البلاد واحدا من سمات الحداثة، ووسيلة من وسائلها في آن معا.
وعلى الرغم من أن رجل المسرح في العراق لم يحسن دائما، كما سنرى، تمثّلَ الاثر الأوربي شديد الأهمية في هذا النوع الأدبي طوال الفترة التي سبقت ثورة 1958؛ فقد كان ظهور كاتب مسرحي مثل يوسف العاني خلال الخمسينات من القرن الماضي، واستمراره في العمل المسرحي كممثل وكاتب يعد علامة طيبة من علامات تطور هذا الفن. وقد رأينا أن المستوى الذي بلغته أعمال هذا الكاتب وعدد آخر من رفاقه في سنوات الستين والسبعين من القرن الماضي خصوصا، تشهد على أن فن المسرح في العراق قد بدأ بالفعل يجتاز سنوات مراهقته الطويلة وبدأ مرحلة البحث عن طريقه الخاص.
فقد تطورت ثقافة الكاتب والمخرج والممثل الدرامية، واتسعت آفاق تجاربه وازدادت إمكانات اطلاعه على المدارس الغربية وتعمقت نظرته النقدية. ولم يعد تناوله للموضوعات الواقعية فجّا أو مباشرا، كما كان في السابق. كما لم يعد التعامل مع الأثر الأجنبي في الكتابة المسرحية ساذجا أو بسيطا. بل إن زيادة فرص الاطلاع على واقع الدرما الأوربية والأمريكية كان يترافق دائما مع الإصرار على البحث عن الهوية الوطنية الخاصة، لإضفاء شيء من الألوان المحلية والأصالة على العروض المسرحية، دون أن يمنع ذلك بطبيعة الحال من استمرار بعض محاولات التجريب المتأثرة بشكل مباشر ببعض المدارس المسرحية الأوربية الجديدة كمسرح العبث، مثلا.
وقد رأينا أنه حتى في هذا النوع من المسرح لا يندر أن نرى كاتبًا قصصيًا وروائيا مقتدرا وأصيلا مثل فؤاد التكرلي يدلي بدلوه في الكتابة المسرحية ذات الطبيعة الحوارية المتجهة إلى الفهم وطرح الأسئلة السياسية والفلسفية والوجودية المؤرقة، والذي كانت دراستنا لمسرحياته أو حوارياته وعلاقتها بمسرح العبث الفرنسي، هي أول دراسة تكتب عن هذا المسرح.لقد كان أثر الواقع السياسي واضحا في توجهات الكاتب العراقي خلال الفترة الأخيرة من عمر المسرح العراقي. فكانت المسرحية السياسية المعبرة عن الأيديولوجية الاشتراكية والتقدمية هي المطلوبة بالدرجة الأولى. وقد حاول الكاتب والمخرج العراقي كلاهما أن يوجّها الأعمال المقتبسة عن المسرح الاوربي باتجاه هذه الأيديولوجية، حتى إذا كانت هذه الأعمال لا تندرج تماما تحت لافتاتها. وقد حظيت أعمال مسرح بريخت الملحمي بعناية خاصة، كما سنرى. لأن مسرح هذا الكاتب الألماني مسرح سياسي “تقدمي” بطبيعته. ولأن تقديم أعماله وقراءتها كان يثير لدى رجل المسرح العراقي الرغبة في تناول مشكلات الواقع العراقي والبيئة المحلية بطريقة مشابهة.
واستخدام الأشعار والأغاني في هذا المسرح بشكل خاص يلبّي لدى الشرقي حاجة متأصلة إلى هذا النوع من المتعة الصوتية الممتزجة بالمتعة البصرية، بل إننا نعتقد، إضافة لهذا، أن قراءة مسرح بريخت كانت واحدة من الدوافع نحو البحث عن شكل مسرحي محلي ومزج بعض الأساليب الدرامية الموجودة في تراثنا العربي كالراوي، والحكاية في هذا المسرح وغيرها من عناصر الفرجة العراقية والعربية القديمة.إن ازدياد الاهتمام النقدي وتطور الإمكانات التكنيكية وبناء بعض المسارح وعودة عديد من المبعوثين من الذين درسوا المسرح في الدول الشرقية والغربية المختلفة.  كلُّ ذلك قد خلق جوا مشجعا تحوّل المسرح معه بالفعل إلى واحدة من الظواهر الحية في بعض المراحل الزمنية، على الرغم من الرقابة الحكومية والحزبية التي لم تكن تترك أمام الكاتب فرصة كافية لاختيار الموضوعات المسرحية ومناقشتها بحرية. وقد اصبحت رؤية بعض العناوين معلقة مدة ثلاثة اشهر أو أربعة متوالية أمرًا ليس نادر الحصول في العاصمة بغداد حتى خلال فترة الحرب. وهو أمر يشير إلى أن هذا النوع الادبي الذي أخذه العراقيون مثل غيرهم من العرب عن الأوبيين قد بدأ يتحول إلى ظاهرة ثقافية حقيقية ويجد له مكانا بين أنواع أدبية اخرى كالشعر والقصة، حتى إذا كانت المسرحيات المقدمة ذات طبيعة شعبية وتجارية لا تخلو من سطحية وابتذال.
وأنا آمل أن استعراض هذا الكتاب بفصوله ومباحثه المختلفة تجعلنا قادرين على استعادة جانب من تاريخنا العراقي الذي يتعرض للتشويه والضياع، عبر قراءة الجهود المبذولة في في هذا الفن الذي رافق نشأة الدولة العراقية الحديثة وأسهم في صناعة جانب من الوعي الوطني وحاول، مع أنواع أخرى، أن يعكس جانبا من حركة الذات العراقية في صورتها الجمعية البعيدة عن الأداء الفردي في الأنواع الأدبية الأخرى كالشعر والقصة، من أجل تأكيد حضورها وقدرتها على التفاعل مع المجتمع والعالم من حولها.
واستعارة النص المسرحي الأجنبي ومحاولة تعريبه أو تعريقه أو الكتابة على مثاله، واستثمار تقنياته وجمالياته السردية لدى عرضه على الجمهور يمثل جزءا من الحاجة الدائمة إلى الآخر. وهي حاجة رأينا في بعض أجزاء هذا الكتاب كيف أنها لا تخلو من تناقض ومفارقة يجري فيها استعارة الخطاب المسرحي الأجنبي من أجل نقضه أو تعديله وإفراغه من جانب من محتواه وقيمه الفكرية والفنية. وتقطُّع االجهود المسرحية العراقية وعدم انتظامها هو في الواقع تقطّع حياة وارتباك مجتمع بذل رجال هذا المسرح، كلٌّ من موقعه، جهودا جبارة من أجل جعله قادرا على استيعاب طموحات ثقافية وجمالية يتجاوز بعضُها واقعَ هذا المسرح وإمكانات عموم جمهوره على التواصل والفهم.
والخطاب المسرحي رغم طبيعته الجماعية لا يختلف بذلك عن بعض نماذج الأدب العراقي الأخرى ذات الطبيعة الفردية التي تظهر تهافتا وعجزا عن فهم الواقع العراقي المعيش واشتراطاته المختلفة عن واقع المجتمعات الأوربية. والمقارنة الشيقة التي أجراها الشاعر فوزي كريم بمناسبة حديثه عن “تهافت الستينيين” بين مثقفي روسيا القصرية في القرن التاسع عشر، ومثقفي ستينات القرن العشرين العراقيين في اندفاعتهم المتماثلة في تطرفها باتجاه الأفكار المجردة دون التفات إلى الواقع الأرضي وإخضاع الفعل السياسي التاريخي المغيّر إلى أهوائهم المبدعة في حقل العواطف والمخيّلة، ذات دلالة خاصة في هذا السياق. فعلاقاتنا الثقافية الاستلابية، نحن ستينيي العراق، مع الغرب ليست من الطينة نفسها، كما يقول فوزي كريم:
“نحن أضعف بكثير وأبعد. وإذا ما خرج إلينا شاتوف عراقي فلن يكون بنفس الحرقة، ولا بذات العصبية. فنحن كمثقفين لم تأسرنا الحياة الغربية بحكم علاقة ملموسة كما أسرت المثقف الروسي، حتى صار يؤمن أن تلتحق روسيا بعائلتها الغربية. بل أسرنا الكتاب الغربي، وبواسطة الترجمة. تعلقنا بثقافة غربية على ورق سيء الطباعة، وكان أشبه بتعلق مراهق من محلة باب الشيخ بحسناء في فيلم أمريكي” (أنظر، فوزي كريم، تهافت الستينيين، ص 18).
وصورة هذا المراهق من محلة باب الشيخ المتعلق بحسناء في فيلم أمريكي، يمكن أن تؤلف أيضا مشهدا نمطيًا واستعارة تمثيلية لبعض نماذج البطل في مسرحنا العراقي التي خلقها مثقفنا المتعلق بصورة الشخصية الرومانسية في المسرح الغربي، كما ظهرت في عدد من النماذج التي عرضنا لها في بعض فصول هذا الكتاب. وهي في صورتها العامة مشكلة منهجية في الثقافة العربية والعراقية سبّبتها طبيعة علاقة المثقف العراقي بالسلطة المحلية، وليست فقط نتيجة علاقة هذا المثقف الملتبسة بالثقافة الأجنبية.
وما دفع كثيرا من الأدباء والنقاد نحو المناهج الشكلانية والبنيوية ذات الطبيعة “العلمية” و”الموضوعية” المحايدة التي تقصي التاريخ والواقع الاجتماعي هو الهروب من ضغط الرقابة والنظام الشمولي. وقد كان “مسرح الصورة” وجماليات الشكل والديكور المجردة، والعناية المبالغ فيها بالسينوغرافيا نوعا من هذا الاهتمام الذي يجري التركيز فيه على توفير إشارات وعلامات لتوكيد المعنى في الفضاء المسرحي. ولكنّ ذلك وغيره من محاولات شكلية لم يكتب لها التطور والاستمرار بسبب من طبيعتها التجريبية نفسها، وخلوّها أحيانا من المعنى والدلالة بالنسبة للكثيرين.

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *