يوم كان الربيع في بغداد ربيعا حقيقيا لم يكن أحد يفكر في ملاحقة المحتوى الهابط. المصطلح هو الجديد غير أن المحتوى كان موجودا من غير أن يؤثر على سيرة المجتمع الأخلاقية.كان الشعب يومها واحدا. هناك كتلة بشرية عنوانها “الشعب العراقي”. كان هناك حزب واحد يتمتع بتفويض لم يكن الشعب مصدره يتيح له القيام بممارسة جنونه من غير أن يمس الضوابط والشروط الأخلاقية.ولأن ذلك الشعب الواحد قد تم ترويضه ضمن دائرة لا تخرج به عن منطق الاحتفاظ بحسن سلوكه في إطار القوانين المرعيّة فقد كان الأمن مستتبا بحيث يمكن للعراقيين أن يتركوا أبوابهم مفتوحة ليلا من غير أن يقع ما يكدّر صفوهم.
مبكرا أنهى حزب البعث الحاكم فوضى الحياة السياسية والتفت إلى تدبير شؤون الحكم برويّة وغنى وعقل، مما جعل العراقيين يستغنون عن تعددية حزبية كانت هي مصدر صداع دائم لهم وهم الذين لم يتعلموا منها إلا التحزب القاتل في إطار العمل الوظيفي وصولا إلى العائلة مرورا بكل فعاليات الحياة المشتركة.في النصف الأول من سبعينات القرن العشرين عمّ صلح استثنائي أرض ما بين النهرين، وكان الشعب الذي تعب من الصراع العقائدي مسرورا بصلحه الداخلي. لقد أحسن العراقيون التعامل مع حساسية الحزب القائد الذي صار واحدا في ما بعد، وتركوه ينفذ مشاريعه وكان على درجة عظيمة من الرقي والتمدن بحيث تحول البلد إلى جنة يسكنها الفقراء، فيما تتمتع الدولة التي يقودها الحزب بثراء أسطوري كانت قد وضعته في خدمة مشاريع التنمية. كانت تلك المشاريع توصف بالخمسية. أي أن خمس سنوات هو سقفها التنفيذي. وهو ما حدث فعلا فانتهت مشكلة البطالة في العراق.
ذات يوم سألتني معلمة اللغة السويدية بنوع من التفاخر فيما إذا كانت هناك مراكز لتشغيل العاطلين عن العمل في العراق كما هو الحال في السويد، فأجبتها بالنفي وقبل أن تزيد من شحنة زهوها انبرت زميلة صومالية قائلة “لم يكن العراق يحتاج إلى تلك المراكز وهو الذي يستدعي الملايين من العرب للعمل على أراضيه”، وهنا شعرت المعلمة بالإحباط وغيّرت مجرى الحديث.نعم. في ذلك الربيع لم يكن هناك عراقي عاطل عن العمل. في الوقت نفسه كان العراق قد حقق إنجازا فريدا من نوعه على مستوى القضاء على الأمية ومحاربتها بقوانين صارمة. فكان كبار السن يرددون مزهوين “راشد يزرع” وهي الجملة الأولى في كتاب تعليم الكتابة والقراءة للأميين. من عاش تلك السنوات لا بد أن يتذكر أن أمه أو أباه صار يقرأ بفخر مانشيتات الصحف وهو يستعرض إنجاز حياته.
لقد أنفقت الدولة العراقية في ذلك الربيع كل ما حصلت عليه من إيرادات النفط في مشاريع التنمية الزراعية والصناعية، وقبلها في قطاعات الخدمات العامة (المواصلات والطرق والماء والكهرباء وتصريف المياه) وقطاعي الصحة والتعليم اللذين كانا مجانيين. ولم يكن هناك فاسد واحد في الدولة العراقية. لم يعرف العراقيون الرشوة ولا سرقة المال العام. ليس لأن القوانين كانت قاسية، بل لأنهم لم يتعرفوا عليهما في تراثهم الوطني ولا تسمح بهما أخلاقهم.“هل هي جنة عدن؟” سينظر البعض من العراقيين إلى ما أقول باستخفاف وسخرية مشحونة بالريبة، كما لو أنني ألقي خطابا في مديح نظام سياسي صار سابقا بعد أن ارتكب جرائم حرب ضد شعبه. ولكن مهلا. أنا أتحدث عن ربيع عراقي حقيقي أفسده العراقيون بأنفسهم. من وجهة نظري لم تكن هناك حاجة إلى حزب الدعوة. لم تكن هناك حاجة إلى شيعة العراق لكي يعلنوا عن اختلافهم الطائفي ما داموا يتمتعون بحق المواطنة.
يكذب مَن يقول “إن قانون الحكم الذاتي الذي نظّم الحياة السياسية في كردستان لم ينصف الأكراد”، إضافة إلى أنه كان هناك أكثر من نصف مليون كردي يسكنون أحياء في بغداد تُسمّى باسمهم ولم يتعرضوا لأيّ نوع من التمييز العنصري. في ذلك الربيع لم يكن هناك عراقيون أقل قدرا وقيمة وتقديرا من سواهم من العراقيين.ولكن الأحزاب التي كان يؤلفها العراقيون بنزعة ثأرية استئثارية كانت قد قررت أن تنهي ذلك الربيع حين فجرت مواقع جنون الحزب الواحد. قاتل الشيوعيون إلى جانب الأكراد الانفصاليين وفي الأهوار وأعلن حزب الدعوة الإسلامية انتماءه إلى إيران الخمينية. يومها انتهى الربيع العراقي. وهكذا خسر العراقيون ربيعهم.