بغداد.. لن يطول اختطافك

بغداد.. لن يطول اختطافك
آخر تحديث:

بقلم: د. ماجد السامرائي

من مبادئ الحب ومظاهره لدى العشاق هو أن الحبيبين قبل أن يفترقا ولو لفترة قصيرة عن بعضهما لا يشعران بذلك العمق الدفين من الحب الصادق في روحيهما، هذا ما حصل لنا نحن الذين فارقنا بغداد بما يسمى الفراق الإجباري الذي تضاعفت مفرداته الصعبة بعد العام 2003.بغداد الحبيبة لا تغطّيها صفات الكبرياء وعمق الأصالة في حركة الحياة العميقة داخل الضمائر والأرواح الحية، فهي أعمق بكثير قبل أن تدخلها عام 2003 الوحوش المُجنّحة بالحقد العميق على عروس الشرق بغداد التي يتباهى أهلها بجمالها المطرز بنياشين الحب المعجون بالتمدن والمعرفة والابتكار.حين كنا فتية نتطلع إلى المستقبل بقوة الشباب عبر التعليم اختطفتنا بشوق وحب بغداد من الأقضية والنواحي وقرى العراق العربية، كان الفضل يعود إلى أهلنا والأكثر خصوصية أمهاتنا في دفعنا للذهاب إلى ديوان المعشوقة الخالدة، والتقرب والتفاعل مع لحظات الاستمتاع واللعب بأطراف فستانها الحريري، والسّكر بعطرها الخالد والتعلم عبر المزج بين التاريخ والحاضر والمستقبل.

هكذا تكوّنَ وتربى جيل شبابي عراقي أصيل وقويّ لا حدود لأرقامه، حتى وإن تمكن الوحوش الغزاة القادمون من كهوف التخلف والحقد والكراهية من إجبار غالبيتهم على الرحيل بعيداً في بلاد الغربة، لكنهم لم يتمكنوا من قطع حبال التواصل العميقة ما بين بغداد وأهلها الشرعيين.غالبية آباء الجيل العراقي الحالي وأمهاته لم تساعدهم عقولهم وأرواحهم وضمائرهم وقلوبهم على القرار الصعب بفراق بغداد، ترسخت في تلك العقول والضمائر قصة أن فراق الحبيبة بغداد يعني التجرّد عن الروح والحياة الحقيقية، أصبح الموت هو العنوان الأكثر تعبيراً وتحققاً في الابتعاد عن المعشوقة الخالدة.

في عناقها اليومي غذاء لا تعوضه كل مباهج دنيا الخارج، أهل بغداد وأهل العراق جميعاً قاوموا وما زالوا يقاومون يومياً الغزاة، يصنعون قصص الصمود الأسطورية في مواجهة الواقع المرير والمفردات الكاذبة اللئيمة التي يزرعها الغازي المتجبّر في عقول المتخلفين المحليين بأن نظام الخميني وخليفته الحالي خامنئي هما رسولا الإسلام الفارسي الجديد. غطاء لئيم مزّقه شيعة العراق قبل سنّته، في ملاحم يومية يحفظها تاريخ هذا الإنسان العراقي العظيم.

في كل بيت عراقي هناك قصة للصمود وعناد الدخلاء الغرباء.مثال شخصي يحضرني الآن، في أوائل التسعينات توفرت فرصة للمرحومة والدتي التي كانت مُجبرة على الإقامة المؤقتة مع شقيقيّ المهاجرين إلى بيروت بسبب الحرب الطائفية، عام 2006 تلقت العائلة المقيمة في لبنان ومن ضمنها الوالدة قرار اللجوء في أميركا. استكملت كافة الأوراق، وحين تم تحديد موعد السفر، وقفت أمامهما الوالدة وعيناها تفيض بالدموع: أنا أعود إلى العراق، لن أسافر بعيداً، سأموت في بغداد. أجبرَ هذا الموقف أحد الشقيقين باتخاذ الموقف المؤلم الأصيل والرضوخ لقرارها والعودة معها إلى بغداد.

أتذكر في أوائل التسعينات أني زرت العاصمة الكوبية هافانا حين كنت مقيما بعملي الدبلوماسي في كاركاس. انبهرتُ بجمال هافانا الفتاك، بعد عودتي من تلك الزيارة مباشرة كتبت قصيدة وصفت فيها هافانا بعروس فاتنة الجمال ترتدي على جسدها ملابس قديمة مُمزّقة تعبيرا عن الفقر والتخلف في مظاهر الحياة.هناك دعاة سطحيون يقولون بأنه لو توفرّت الفرصة أمام جميع العراقيين لغادروا بلدهم العراق وتركوه بلا أهله، خلف مثل هذه الدعوات المُحبطة أذناب الغزاة أنفسهم لمعرفة درجة تأثير صنوف الكوارث التي يصنعها أسيادهم كل يوم.أراهن بأن غالبية العراقيين الموظفين لدى البرابرة الغزاة في إدارة السلطة بعد 2003 لا يحبّون بغداد، فقد تسرّب الكره إلى نفوسهم وأصبح عنواناً لها بدعوى المعايشة مع الغزاة، هم الذين شجعوهم على إهانة العراقيين بسبب عشقهم لمدينتهم، من يحبّ لا يؤذي محبوبته ولا يجرّدها من عناصر الجمال ومظاهره.

ينقل التاريخ وقائع مذبحة بغداد التي قامت بها الدولة الصفوية الفارسية في 14 يناير 1624 ميلادية بعد حصار لبغداد دام ثلاثة أشهر. نُفذت المذبحة الطائفية ضد السنة من قبل الشاه عباس الصفوي بعد احتلاله لبغداد. كان هدف مذبحة بغداد تحويلها إلى مدينة شيعية، وأمر بهدم مساجد المسلمين من أهل السنة وجعلها مزابل ومرابط للخيل كما حصل مع جامع أبي حنيفة مثلاً.لم تتوقف الدولة الفارسية القديمة عن الاعتقاد بأن بلاد الرافدين امتداد إستراتيجي طبيعي لها، وهو ما دفع الصفويين إلى اتخاذ مذهب التشيع وتكريسه في العراق.استعجلت العنجهية الفارسية اليوم، بعد أن وفرت القوات الأميركية لحكامها في طهران فرصة احتلال العراق، الإفصاح عن حقدها التاريخي العميق ضد بغداد عبر تصريحات مسؤولي النظام الحالي. ويتذكر العراقيون ما أعلنه في مارس من عام 2015 علي يونس نائب الرئيس الإيراني حسن روحاني من أن “إيران أصبحت الآن إمبراطورية، كما كانت عبر التاريخ وعاصمتها بغداد حاليا، وهي (أي بغداد) مركز حضارتنا وثقافتنا كما كانت في الماضي”. هكذا دون أن تستفز هذه الصفاقة والغرور خدَم الغزاة داخل العراق.

 أبناء العراق ردّوا على طريقتهم في رفضهم التغلغل الإيراني وتمسكهم بعراقية بغداد العظيمة وربطوه بأخطبوط الفساد في العراق. عبّروا عن ذلك عبر حرق صور الخميني في شوارع المدن الشيعية مثل الناصرية وكربلاء والنجف، وهوجمت مقرات الأحزاب والميليشيات الموالية للأحزاب العميلة مع انتشار شعار “إيران برة برة.. بغداد تبقى حرة”.المحتل الاستعماري التقليدي وكذلك الاحتلال الأميركي للعراق هو الأرقى في سلوك أدواته اليومية من جريمة الفرس في اختطاف بغداد. المحتلون التقليديون رغم بشاعة جرائمهم بحق العراق، لكن أمثلتهم العثمانية أو البريطانية أو الأميركية، لم يأت احتلالهم لبغداد بدوافع تأمين النقص في المكانة أو الحاجة المادية أو حتى للانتقام الحضاري، مثلما يحصل اليوم من قبل نظام ولي الفقيه الإيراني. احتلوها تعبيرا عن دوافع منها حاجتهم إلى مكانة العراق الإستراتيجية في المنطقة في تعزيز إمبراطورياتهم.

رغم قسوة محنة بغداد الأسيرة، لكنها تضغط على مختطفيها لينطقوا بمكانتها، تصريحات نائب الرئيس الإيراني بأن بغداد عاصمة إمبراطوريتهم الجديدة محاولة يائسة متعجلة لتقمص دور المنتصر، لكن الرد الشعبي نطق عملياً باسم الأسيرة بغداد، والقادم من الأيام سيؤكد المرض المصاحب للهوس والعنجهية الفارسية وبأن تاريخ الإمبراطوريات لم يعد له مكان في العالم المتحضر الجديد.أقوى تعبير عملي لمساندة بغداد العروسة المطوّقة بسلاسل المختطفين الإيرانيين، الحركة الوجدانية العروبية لأهل البصرة خلال انعقاد “خليجي 25”.ليس هناك أيّ من الحدود الدنيا من الأعذار لصمت المثقفين والأدباء والشعراء العراقيين اليوم أمام المشهد الوحشي لاختطاف المعشوقة بغداد من قبل البرابرة الغزاة، والعبث بتاريخها وتزويره ببدائل غريبة مسخة مزيّفة، باعتقاد همجي أنهم سيفصلون ما بين العشاق والمعشوقة، وبالتالي سيلغون وينهون بعبثهم الحاقد قصة الحب الخالدة التي تجددها المحن والكوارث.ليغطي الغزاة وجه المعشوقة بغداد بكل قذارات الوساخة ومظاهر التخلف الهمجي في إجبار حيوانات مثل الخيول والجمال المسير تحت لوحة التحرير في مركز العاصمة، فهذه التفاهات تعبر عن أصحابها الغزاة وأدواتهم.لن يطول اختطافك يا بغداد لأن مركز قوتك هذا العمق في تاريخك الإنساني الذي أصبح رمزاً للعراق وحضارته، فكل بغدادي وعراقي يعشقك بطريقة لا تجدها إلا عند العشاق الحقيقيين. ستعودين كما كنتِ بهية مُشرقة الطلعة والمظهر، ويندثر الغزاة مهزومين خائبين.

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *