محمود فهمي.. السكنى في الزمن المفقود

محمود فهمي.. السكنى في الزمن المفقود
آخر تحديث:

 محمد طهمازي

” بعد أنْ قتل قابيل أخاه هابيل، التقى الأخوان من جديد، في أرضٍ خلاء. مِن بعيدٍ عرف كلٌّ منهما الآخر، فكلاهما كان مديد القامة. جلس الأخوان أرضًا وأشعلا نارًا وأعدّا طعامًا. كانا صامتين كما يصمت الأشخاص المتعبون في آخر النهار. وفي السماء التمعت نجومٌ لم تكن لها أسماء في ذلك الزمن البعيد. على ضوء اللهب، رأى قابيل أثر ضربةِ الحجَر على جبهة أخيه، فسقطت قطعة الخبز من يده، قبل أن يحملها إلى فمه، وطلب الصفح عن جريمته. قال له هابيل: “أأنتَ الذي قتلتني، أم أنا الذي قتلتُك؟ إنّي ما عدتُ أتذكر. وعلى أية حال، فها نحنُ معا، كما كنا في الزمن القديم.” قال قابيل: “الآن أيقنتُ أنك صفحتَ عني، لأنّ النسيان هو الصفح. أنا أيضا، سأحاول أن أنسى”. أجاب هابيل بصوت هادئ: “نعم، هو ذاك، فالخطيئة تَبقىٰ ما بَقِي الندم”،

خورخي لويس بورخيس. يأخذنا محمود فهمي إلى العالم البكر، عالم من تراث مشاعرنا التي تسكن ذلك الماضي الآمن الهادئ حيث يسكن أهلنا بحياتهم الوادعة قبل أن يأتي ذلك الهمجي ليقتلها ويضع محلها حياة القلق المزروعة بالخوف، ويعرض أمامنا كل يوم على شاشات كبيرة جدًا كيف يقتل بدم بارد كل تراثنا وتاريخنا ويلوث مشاعرنا وأحلامنا وآمالنا وحتى انتماءنا لكل ما هو جميل وصادق ومحبب. ويضعنا محمود في صورة إنسان هذا العصر الذي يعيش في نزاع داخلي في جانبه الخاص بالمشاعر في زخم التحولات المستمرة التي تعمل بهوس على إنهاء دور هذا الجانب في حياة المجتمعات البشرية مغلبة الحياة العملية واللهاث خلف المطامع. لقد رأينا كيف تآكل جرف الكلاسيكيات العاطفية للنتاج الفني والثقافي بشكل جائر كانعكاس للانقلابات السياسية التي ضربت مجتمعاتنا بقسوة وجربنا ذلك الدهليز المرعب من الحروب والدماء الذي حشرنا فيه حشرًا من دون أي تبرير سوى الجنون الذي تحمله تلك الثقافات المريضة القادمة من مجاهل التاريخ لتفرض همجيتها في كل مفاصل المجتمع والحياة اليومية للفرد.يذهب انتماء فهمي إلى زمن يتمظهر في حيوات وهويات ثقافية وانماط اجتماعية قبل الهوية الفنية.. زمن لم يأخذ حقه في ثقافة وهوية البلد وربما في الحياة برغم كونه يمثل أول انفتاح على العالم بعد قرون من السبات داخل الشرنقة التركية العثمانية، انفتاح ظنَّ علينا به الكثيرون من الداخل والخارج فاستأصلوه من بلادنا ثم عملوا على استئصالنا من الثقافة والهوية التي بذل ذلك العهد جهدًا عظيمًا لزرعها ونجح في حالات وفشل في أخرى وهذا أمر طبيعي لكيان سياسي وثقافي وليد لدولة تتكون تحت شمس العالم من الصفر بعد طول انكفاء.

كان لا بد لمحمود فهمي من تأسيس أو تأكيد انتمائه للأرض لأنها تشكل البنية التحتية التي تتشكل عليها معمارية اللوحة وفي ذات الوقت تحتوي معمارية الهوية المجتمعية عبر ما ينبت فوقها من بناء هو حاضنة الوجود المادي للإنسان ومعبر عن صورة الحياة أو المهم منها ليعززه الانسان بمنظومته التراثية المتزاوجة مع مفردات حياته اليومية.فكرة حقن المشهد الواقعي بحركة فنطازية ليست بالجديدة وخصوصًا الطريقة التي استخدمها محمود لكنها فكرة جديدة من حيث توظيفها في المشهد الواقعي التراثي والمجتمعي العراقي والشرق أوسطي بالعموم، حيث نقلت العمل الفني البصري الواقعي أولا نحو واقعية سحرية استعادية لذاكرة تبعد عنا حوالي القرن من السنين والتي يحن إليها وعي جزء مؤثر ثقافيًّا من مجتمعنا العراقي.. وثانيًا منحته بعدًا عالميًّا حينما حررته من قالب محليته الواقعي الجامد المشتغل على عملية اجترار عمياء لا نهاية لها للتراث والتاريخ عملية من تبلد الابتكار والتحرر، وهذا وجه إيجابي ومهم لاغتراب الفن أو الفنان العراقي حين يهضم التجارب والرؤى الفنية العالمية معايشة لا عن بعد فتتكون لديه مقدرة على التعاطي مع رؤاه الفنية والفكرية ومرونة كبيرة وجرأة على توظيفها في صياغاته وتشكيلاته الإبداعية واضعًا بصمة أسلوبية خاصة تحجز لمحمود فهمي مكانة فنية مرموقة على المستويين المحلي والعالمي.

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *