معقول الصدر في فوضاه

معقول الصدر في فوضاه
آخر تحديث:

بقلم: علي الصراف

لا تعرف لماذا يبقى مقتدى الصدر يدلي بتصريحات عن فاسدين كان هو الذي سلّمهم السلطة. شيء لا يبدو معقولا. ولكن السؤال الذي لا يني يطفو على السطح هو: ما هو المعقول أصلا في عراق الميليشيات؟ ما هو الشيء الذي إذا سمعته، جاز لك أن تصدقه؟العراق حالة من الاضطراب العقلي. إنه بلد مصاب بنوع جديد من أوبئة تصيب الدماغ، حتى أصبح الهذيان هو الشيء المتداول ليس بين السياسيين وحدهم، بل بين الناس. يجعلهم يقولون شيئا ويقصدون آخر.

في خضم الفوضى الذهنية العامة، دعا الصدر أنصاره إلى الامتناع عن المشاركة في انتخابات المجالس المحلية الشهر المقبل. قال لهم “مشاركتكم للفاسدين تحزنني كثيراً… ومقاطعتكم للانتخابات أمر يفرحني ويغيظ العدا… ويقلل من شرعية الانتخابات دولياً وداخلياً ويقلص من هيمنة الفاسدين والتبعيين على عراقنا الحبيب”. وهو:ـ شارك الفاسدين دهرا.

العراق كله هو الذي يتقيأ دماً. وهو الذي يصيبه الهزال. وهو الذي إذا أراد أن يبحث عن سبيل للخروج من الفوضى سقط تحت وطأة التهديد بحرب أهلية، في بئر أعمق من الخسران

ـ وتنافس في انتخابات، وأفرح العدا.

ـ واعتبرها شرعية يوم أراد السلطة من ورائها.

ـ ودفع أنصاره لطعن المطالبين بالتغيير وأجهض احتجاجاتهم.

ـ وعندما حوصر من قبل الفاسدين والتبعيين ليشاركوه الحصة، سلّمهم المفتاح.

وما من مرة، قدّم الصدر تفسيرا لتقلباته واضطراباته الذهنية. وظل الرجل يبدو وكأنه “طبيعي”. إنما لأن محيطه، والعراق كله، لم يعد طبيعيا. حتى أصبح من المعقول، في عالم اللامعقول، أن يبدو حكيما أكثر من سواه.

ويحظى الصدر بدعم نوعين من الناس. الأول يتخذ منه ستارا لمعارضة، لو أنها لم تتستر به لكان نصيبها الاتهام بالانتساب إلى النظام السابق، وتاليا القتل والملاحقات والترويع. والثاني مصاب بوباء الجهل الطائفي ممّن يعتبرون ولاءهم لإحدى الميليشيات امتدادا لولائهم لـ”آل البيت”، ولو كانت المسافة بين هذا وذاك أبعد من المريخ.

وكان من الممكن للتيار الصدري أن يكون طرفا من أطراف التغيير. إلا أن طائفيته غلبت عليه. وكان من الأيسر للصدر أن يمنح السلطة لـ”الفاسدين والتبعيين” من فصيلته الطائفية، على أن يتحالف مع قوى التغيير الأخرى. وهو سيظل يفعل الشيء نفسه، حتى جاز التساؤل عمّا إذا كانت وطنيته وولاؤه لمصالح العراق مجرد غطاء لغطاء، أو حجة للادعاء على غيره من أصحاب الولاء لإيران. أو بكلمة أخرى، مجرد أداة للتمايز عن غيره من الأقران، في إطار طائفية هي الأساس، وليس العراق. وهذا ما يجعل “التمايز” غطاء، والوطنية غطاء آخر. والأصل في ذلك أنه يقول شيئا ويقصد آخر.

ولم يعد من المهم أن يشارك التيار الصدري في الانتخابات أو لا يشارك، طالما أن النتيجة هي نفسها. إذا خسر، تكسّرت شوكته، وإذا فاز كسر شوكته بنفسه.ويبدو في الظاهر، أن عداءه الشخصي لحاكم العراق الفعلي، ومؤسس نظامه الطائفي، نوري المالكي هو السبب الرئيسي لنفور الصدر من المشاركة في عملية سياسية تملي عليه أن يقابل وجه المالكي بين حين وحين مما قد يدفعه إلى الغثيان.

وجه الغثيان الحقيقي هو أن المالكي صمّم نظاما محكما للمحاصصة، قد يمكن نسفه، إلا أنه غير قابل للإصلاح. هذا النظام، على بساطته، كان قادرا على أن يجمع كل فئات اللصوص حول مائدة العراق، فيكون لكل عصابة منها حصتها من أعمال النهب. وهو ما أصبح يعني شيئين، من الناحية “الدستورية”: الأول أن العراق هو دولة “مكوّنات” يحكمها “المكوّن الشيعي”. والثاني أنه يمكن لعصابة شيعية أن تتفوق على غيرها من الأخوات، إلا أنها يجب أن تأخذ مصالح وحصص أولئك الأخوات.

الصدر يؤمن بالجزء الأول، ولا يؤمن بالثاني، ما يجعل عجزه عن الخروج من هذه الدائرة المحكمة هو سبب الغثيان.لا تستغرب الفوضى في بلد يدّعي اللاعبون فيه كل ادّعاء، ويقصدون شيئا آخر. ها هنا منبت الوباء. وللوباء اسم يعرفه الطائفيون. ويعرفون أنه يصيب العقول ويرسم أنماط السلوك 

والمالكي خبير مؤامرات أيضا. وهي كفاءة تعلمها ببطء شديد من أيام الجوع والحرمان، وأصبحت من الإتقان إلى درجة أنها تستطيع أن تنتظر طويلا. بينما الصدر مثل فوران القهوة، انفعالي، وتتضارب أفعاله حسب المزاج. ولئن بدا في لحظة من اللحظات أن المالكي يخاف من انتقام الصدر (لأنه يعرفه جيدا)، فالحقيقة هي أن الصدر هو الذي يخاف.

هذا الوضع الشاذ، بمثابة لعبة، إما أن تلعبها بشروط صانعها، وإما أن تنسفها نسفا. والصدر ليس على تلك الشجاعة ليأخذ مثل هذا الخيار. أهون عليه أن ينأى بنفسه عنها ويتركها تمضي إلى حيثما تشاء، على أن يكون قوة تغيير.حالة الفوضى الذهنية سرعان ما تكشف عن سياق يبدو “معقولا” لأصحابه على نحو مفاجئ. وهو أن المحاصصة الطائفية هي النظام، وأن الصدر جزء منه، ولو نأى بنفسه عنه. وهو واحد من حرّاسه الأمناء. شارك أم لم يشارك في الانتخابات. جماعته (الأكبر) ستظل هي الفائز باستمرار.

تلك الحالة من الفوضى الذهنية تبدو في هذا السياق عملا عقلانيا تجعل من السهل للمرء أن يفهم لماذا شارك الصدر الفاسدين دهرا، ولماذا تنافس معهم وانقلب عليهم، ولماذا أخلى لهم المكان، وجعله فسيحا، مما صار مثيرا للغثيان له ومنه.وإذ أنه لم يمتلك الكفاءة لكي يصنع لعبة أخرى، فقد آثر أن يجاريها عن بُعد، ويُجريها إلى حيثما تشاء.

شيء آخر، مثير للغثيان، ولكن ليس هو الذي يتقيأ.العراق كله هو الذي يتقيأ دماً. وهو الذي يصيبه الهزال. وهو الذي إذا أراد أن يبحث عن سبيل للخروج من الفوضى سقط تحت وطأة التهديد بحرب أهلية، في بئر أعمق من الخسران.لا الوطنيون قادرون على نسف النظام. ولا المتحلقون حول المائدة يكتفون بما نهبوا. وكيف تشبع إيران؟

لا تستغرب الفوضى في بلد يدّعي اللاعبون فيه كل ادّعاء، ويقصدون شيئا آخر. ها هنا منبت الوباء. وللوباء اسم يعرفه الطائفيون. ويعرفون أنه يصيب العقول ويرسم أنماط السلوك. وهو ما يجعل أعتى عصابات الولاء لإيران تدّعي انتماءً للعراق. والصدر واحد منهم، وإن بدا على بعض اختلاف.

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *