تمتاز الساحة السياسية العراقية بعد عام 2003، بكثير من الأمور الغريبة والتي لا علاقة لها بالمنطق، وهذا لا يختص بمنطقة أو مكون أو حزب، لكن أغربها وأكثرها إثارة للعجب والحيرة هو ما يتعلق بزعيم التيار الصدري مقتدى الصدر..تميز هذا الرجل ومنذ سقوط نظام البعث على يد القوات الأمريكية، بمواقف تقلبت بين أقصى اليمين حتى أطراف اليسار، وغموض وعدم وضوح ناهيك عن غياب الثبات فيها، ولم يترك له صديقا إلا وإنقلب عليه، والحجج جاهزة كحب الوطن والدين والإيمان.. وغيرها من الكلمات والخطب الرنانة، التي لا تنطلي إلا على بعض من أتباعه السذج..
أتباع مقتدى الصدر هم حكاية أخرى، فبعد أن إلتف حوله كثير من محبي أبيه الذي أغتيل على يد البعثيين، أعاد مقتدى الصدر إحتضان عشرات البعثيين وأبنائهم، وخصوصا ممن كانوا مطلوبين للعراقيين، بسبب إرتكابهم لمختلف الجرائم والإعتداءات أبان حكم الطاغية، ويضيف لهم أعداد ممن لا يحترمهم المجتمع لمختلف الأسباب، ممن يبحثون عن قيمة قد يجدونها في عيون المجتمع، حتى لو كان عن طريق تخويف وإرعاب المجتمع.. وهذا ما دفع معظم أتباع أبيه لهجرته وتركه، بعد أن تكشفت لهم الحقائق خلال بضعة أشهر..
تحالف الرجل مع فصائل مسلحة سنية بدعوى “مقاومة المحتل” رغم قيامهم بكثير من أعمال التفجير والقتل لمختلف الطوائف، بل وجاء بهم لمدينة النجف أقدس مدن الشيعة، وليبتز زعماء وساسة الشيعة، ليحصل على حضوة ومناصب ما كان ليحلم بها يوما، ثم عاد وأنقلب عليهم، وأرتكب مذابح بحجة الدفاع عن الشيعة، على يد عدد من قادته من المجرمين أمثال “أبو درع” والأخر ” أبو سجاد” وغيرهم ممن لا زالوا أحرارا طليقين، رغم ثبوت ارتكابهم لعشرات الجرائم ضد أبرياء!
إنطلق بعدها ليتحالف مع عمار الحكيم، ليعود ويستغله وينقلب عليه ويهاجمه، ويشهر به وبعائلته بأقذع الطرق وأقذرها، ثم تحالف مع المالكي وأنقلب عليه، وليتقاتلا لاحقا في البصرة، وتحالف مع العامري وإنقلب عليه وسقطه دون تردد، ثم ليقوم بخطوة هائلة، بالتحالف مع الحلبوسي وخميس الخنجر، وهو من كان يتهمها بالفساد والإرهاب، ويكمل اللعبة بضم البارزاني للتحالف.. وكعداته إنقلب عليهم، وليعلن إقالة نوابه وإنسحابه من العملية السياسية بعد محاولة إنقلاب فاشلة، عندما سعى لإحتلال المنطقة الخضراء حيث رأس الحكومة ومركز قرارها، بعد فشل مليشياته “سرايا السلام” في إقتحامها، بهزيمتهم على يد قوة صغيرة تكاد لا تذكر من حيث العدد والعدة، رغم وجود تنسيق مع رئيس الوزراء السابق الكاظمي، كما نقلت وكالات أنباء ومصادر!
ما الذي يملكه هذا الرجل من مصادر قوة، تتيح له إبتزاز الحكومة والقوى الشيعية، بل وكل القوى السياسية، وحتى المرجعية الشيعية وإيران، ربما تتماهيان مع ما يريده هذا الرجل النزق!من الواضح أن الرجل بالإضافة إلى إمتلاكه لمليشيات لها قدرة إرتكاب أي جريمة دون تردد، وتهديد السلم المجتمعي لأي منطقة في العراق، فان قدرته على إشاعة الفوضى وإرعاب الناس، وإمتلاكه لمجموعة رغم أنها ليست كبيرة لكنها مطيعة له تماما لإرتباط مصيرها به، هما مصدر قوته الأعظم.. وأما عن زعامته الدينية ووراثته لأبيه فهي ” خدع ساذجة” لا يصدقها أحد.
الأخطر ما في هذه المجموعة “التيار الصدري” ليست وجود مقتدى الصدر على نزقه وإنفعاليته، فهو رجل يمكن السيطرة عليه بسهولة.. لكنهم الحلقة التي تلي هذا الرجل من مستشارين ومقربين ومحيطين به، ممن تؤكد جهات كثيرة وجود إرتباطات وثيقة لهم، مع مخابرات دول كبرى وخليجية مؤثرة ينفذون من خلالها، توجيهات وأجندات تلك الدول.ينقل زعيم سياسي شيعي، عن حديث لمقتدى الصدر معه في جلسة خاصة قوله: أنه يخاف أن يغتاله أقرب الناس إليه وأنه ” هم من يخاف منهم” وهي قضية توضح كثيرا من أسرار ذلك التيار، وما نشهده من تقلب في المواقف وتبدل في الشخصيات..
يؤكد مقربون وقيادات وسطى من داخل التيار الصدري، أن كل ما يحدث من تحركات أو قرارات للتيار الصدري، إنما هي من أفراد عددهم صغير من المقربين، بل وأن كثير منها يعود لقرارات قيادات وسطى، صارت تأخذ مناطق مجتمعة كرهينة لسلطتها، فحاكم الزاملي لديه منطقة يحكمها وعون النبي كذلك وغيرهم عشرات.. ومن يوصفون بأنهم ” أعقل” من غيرهم أمثال “صلاح العبيدي، ووليد الكريماوي” فيتم إستبعادهم بصمت، لأنهم يعرقلون تكوين أمبراطوريات هؤلاء المقربين.ضعف مقتدى الصدر أمام من يسيره والمتحكمين فيه وفي أتباعه، خصوصا ممن سبق لهم إرتكاب عشرات الجرائم، يجعلهم جهة خطرة جدا لصعوبة التعامل مع هكذا شخصيات، لا يهمها إراقة الدماء أو تدمير البلد لفرض سطوتها وقرارها عليه، أو بحثا عن مكسب مالي أو سلطوي فحسب.
رغم أن الحكومة العراقية بزعامة السوداني تزداد قوة يوما بعد أخر، بحكم ما تحققه من منجزات على قلتها، وهذا يمنحها شرعية مجتمعية وسياسيا لكنها وكما يبدو تتردد في مجابهة أتباع الصدر، ولا تريد أن تنجر لساحة هو أعتاد العيش فيها حيث الفوضى والقتل والإجرام لأتفه الأسباب، فقوة الحكومة بمقدار الاستقرار وما تحققه من إنجازات ضمن هذا الإستقرار.هكذا ظواهر غير سوية تتلبس بثوب الدين والسياسية نهايتها واحدة ومعروفة، فمهما فعلت من تأثير تدميري وسلبي على المجتمع والبلد لكنها عاجلا أو أجلا ستقع تحت قبضة القانون، لأنها تتبجح بما تفعله من إجرام، ويوما ما أغلب أتباعها سيتركونها لمصلحة أكبر، وعندها سيكون أمثال هؤلاء وحتى زعيمهم فريسة سهلة يمكن إصطيادها بكل سهولة، وعندها سيكون من يسيرونه الان هم أول من سيتخلى عنه بل وسيكونون في مقدمة اللاعنين له ولأفعاله.