هل انتهى عصر التبعية العربية في جدّة؟

هل انتهى عصر التبعية العربية في جدّة؟
آخر تحديث:

بقلم: د. ماجد السامرائي

ما حصل من وقائع ونتائج في قمة السادس عشر من يوليو في جدة وما جرى قبلها من اجتماعات ولقاءات بين الرئيس الأميركي جو بايدن والزعامة السعودية المتمثلة بالعاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز وولي عهده الأمير محمد بن سلمان، كذلك ملوك ورؤساء الخليج ومصر والأردن والعراق، بدد أولاً خرافات الحملة الإعلامية التي قادتها بغباء طهران وتوابعها الولائيون في المنطقة، التي سوقت أكاذيب “التطبيع مع إسرائيل” أو إقامة ناتو عربي لمواجهة التحالف الروسي – الإيراني – الصيني. طهران تخشى أيّ تحوّل ممكن حصوله في تحالفات المنطقة وجدّية زعاماتها الشابة.

منذ الساعة الأولى لزيارة جو بايدن، وكذلك المسؤولين الخليجيين والعرب، وضح هدف المؤتمر بكونه دعوة عملية لحالة اندماج أمني واقتصادي خليجي – عربي في مواجهة قوى العبث والتخريب والتخلف التي تريد الشرّ بالمنطقة.

المفاجأة الأكثر دراماتيكية والتحوّل الصادم للرئيس الأميركي ظهرا في قمة جدّة؛ فالزعامة السعودية المتمثلة بالأمير الشاب محمد بن سلمان تمكنت من تجاوز مرحلة طويلة من الخنوع العربي للآخر الأميركي أو الغربي أو الشرقي. أظهرت للعالم حقيقة أن العرب تجاوزوا عملياً الفكرة البائسة بأنهم يمتلكون الثروة لكنهم يقدمونها للغير بلا ثمن. فيما واقع الحال يقول بوجود تنمية عميقة بدأت بالفعل في قلب العالم العربي، السعودية ومنطقة الخليج، في استثمار جدي للمال وأهم شيء للعقول البشرية التي يمكنها تجاوز عقود التبعية لإقامة توازن القوة في العالم.

ثانياً، كشفت إعلانات الرئيس الأميركي التضخيم الذي أحيطت به زيارته بأنها نقطة تحوّل نوعي في السياسة الأميركية تجاه الشرق الأوسط حيث تم تهويل المشهد بأن بايدن قادم ومعه الصواريخ وحاملات الطائرات لفتح النار على إيران بتحالف إسرائيلي – عربي.

اعترف بايدن بأخطاء سياساته وسياسات حزبه الديمقراطي تجاه العرب، لكنه اعتراف جاء تحت ضغط الأزمة التي يعيشها في بلاده بعد حرب أوكرانيا، لذلك لا يعتد به. الرئيس الديمقراطي هو ذاته، وسياساته لم تتبدل جوهرياً حول صراع المنطقة عن سياقات أستاذه باراك أوباما، حتى وإن انسحبت جزئياً حدّة التعابير في ضجيج الخطاب الذي أطلقه خلال حملته الانتخابية ضد السعودية كرمز سياسي مباشر للعرب تحت العنوان الأجوف “الدفاع عن حقوق الإنسان”.

سيمجّد مصطفى الكاظمي نفسه وأهمية دوره في ترتيب اجتماعات السعوديين والإيرانيين، من أجل التجديد له لمنصب رئاسة الوزراء، أو إدارته لحكومة تصريف أعمال إذا ما تقرر حل البرلمان وإقامة انتخابات مبكرة

ثالثاً، وهذا هو المهم، اكتشف بايدن وهو السياسي المحترف أنه يواجه نمطاً من الزعامات العربية الجديدة الشابة غير التقليدية، التقى واجتمع معها، تتحدث ذات اللغة العالمية العصرية الصريحة في التعاطي بالعلاقات الدولية. ليست تابعة، فحين يُطلب من هؤلاء الزعماء المعاونة في النفط مثلا، يتساءلون ماذا يقدم لهم الآخر.

أطرف محاورة مباشرة جرت على الطاولة بين الأمير محمد بن سلمان الزعيم العربي الجديد المتحرر وبين جو بايدن الأسير، ستبقى المحادثة عالقة في ذاكرة بايدن نفسه وفي الذاكرة العربية حين اعتقد أسير المتطرفين داخل حزبه أنه واجه محمد بن سلمان بمسؤوليته عن مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي، وهو ملف انتهى منذ فترة. كان الردّ واثقاً وجريئاً: مثل هذه الحادثة تحصل في أيّ مكان من العالم، السعودية تحركت للحيلولة دون حدوث أخطاء مثل قتل خاشقجي، لكن الولايات المتحدة ارتكبت أخطاء كثيرة أيضاً كحادثة سجن أبوغريب في العراق، كذلك أقرب حادثة مقتل الصحافية الأميركية شيرين أبوعاقلة دون أن تحرك واشنطن ساكناً.

اللافت في هذا انكشاف الارتباك الذي وقعت فيه دوائر البيت الأبيض بدعوى عدم صحة تصريحات وزير الدولة للشؤون الخارجية السعودي عادل الجبير حول عدم إثارة بايدن أمام ولي العهد السعودي موضوع مسؤوليته الشخصية عن مقتل خاشقجي. حيث هددت الجهات الرسمية السعودية بنشر محضر اللقاء للرأي العام، مما اضطر البيت الأبيض إلى حذف الكلمة التي تشير إلى أن بايدن تحدث عن مسؤولية محمد بن سلمان الشخصية عن مقتل الصحافي السعودي واستبدالها بعبارة “كنت أظنك مسؤولاً عنها”.

اعتادت الولايات المتحدة على خضوع الدول العربية وتبعيتها، إلا في فترات نادرة واجه فيها بعض الزعماء العرب الغطرسة الأميركية، لكن تلك الجرأة والشجاعة في المواجهة السياسية فقدت أهميتها التاريخية وتأثيرها وانقلبت ضد صانعيها وأزاحت نظامهم السياسي عبر الاجتياح العسكري، لأنها افتقدت الرؤية الواقعية السليمة، وخلطت ما بين مصالح الشعوب وأحوال المنطقة وبين المواجهة مع إسرائيل. كانت تجربة قاسية لا شك أنها تفيد أيّ زعامة عربية جديدة تحتاجها الأمة في عصر جديد فيه أسبقيات وأولويات اقتصادية مهمة تحتاج إلى الزعامة.

العرب هذه المرة لديهم أسئلة تطرح أمام أميركا وتتطلب الجواب: هل فعلاً واشنطن حليف جدّي أم هي علاقة تعود بالنفع على طرف واحد؟ علاقة مثل هذه انتهت في مقاييس العلاقات التي قالها محمد بن سلمان، وقالها أشقاؤه العرب وجهاً لوجه أمام  بايدن. هم ليسوا كما تم التعامل معهم سابقاً في ملفات كثيرة كملف الدفاع عن حقوقهم التي سوّق السياسيون الأميركان والمتحالفون معهم من منظمات متطرفة وقوى مذهبية محلية، بأن العرب لم يتجاوزوا جهلهم وتخلفهم وقرويّتهم، ومسؤوليتهم هي استخراج النفط من أرضهم وشحنه إلى عواصم أميركا ودول الغرب مقابل حمايتهم من المخاطر المحيطة بهم التي لا بدّ من إبقائها مشتعلة.

بايدن قال كلاماً سطحياً وعمومياً، لم تعد معرفته سراً، حول كيفية مواجهة المخاطر الإيرانية، بأن واشنطن لن تسمح لإيران بإنتاج القنبلة النووية. لكنه لم يتحدث مثلاً عن الخطة باء فيما إذا واصلت طهران مشروعها لإنتاج السلاح النووي، مكتفيا بالقول “لن تتسامح أميركا مع محاولة دولة واحدة الهيمنة على دولة أخرى في المنطقة من خلال التعزيزات العسكرية أو التوغل أو التهديدات”، وهي عبارة ينقصها الكثير من التفصيلات الواقعية التي أحجم بايدن عن قصد ذكرها.

عقدته الرئيسية اليوم وشاغله تصاعد نفوذ روسيا والصين وتداعيات الحرب الأوكرانية، اعتقد أنه في لقاء جدة سيبني حشدا مضادا لروسيا أولا في ملف النفط، لكنه لم يحصل على شيء. فالرياض تصرفت مع أشقائها بمسؤولية “لدينا 13 مليون برميل فقط، مسؤوليتنا من خلال أوبك+”. وبايدن أكد أن واشنطن لن تترك الفراغ لروسيا والصين، ولم يقل إيران. لم يكن صريحاً، ولم يذكر أسباب نقل منظومات الحماية الجوية من المنطقة. ومعروف أن الأسطول الخامس الأميركي موجود في البحرين ومن خلاله فقط تستطيع أميركا فرض الهيمنة.

اعترف بايدن بأخطاء سياساته وسياسات حزبه الديمقراطي تجاه العرب، لكنه اعتراف جاء تحت ضغط الأزمة التي يعيشها في بلاده بعد حرب أوكرانيا، لذلك لا يعتد به

بالنسبة إلى السعوديين والعرب لم يعد مهماً ماذا تقدم واشنطن لهم من أسلحة الردع، رغم أهميتها في توازن القوة على الأرض تجاه السلاح الإيراني الذي يبدو لعبة أطفال بالنسبة إلى أميركا. فهم انتقلوا فعلياً إلى مرحلة جديدة من الوضوح ستجبر الولايات المتحدة على تغيير نظرتها ولا نقول استراتيجيتها تجاه العرب.

المهم ما حصل في جدة من انتقال جيوسياسي في مضمار العلاقات الدولية. يمكن أن نقول إن العرب بفضل القيادات الجريئة الشابة ودّعوا زمن التبعية وعبودية المواقف. أهم ملمح هو ظهور زعامة عربية تفرض نمطاً جديداً في علاقة العرب، خصوصاً الخليج بزعامة السعودية مع الولايات المتحدة. يبدو هذا التطور مفاجئاً على نمط عقل السياسة الأميركية التقليدي، وسيحتاجون إلى وقت لاستيعابه، إذا ما صمد كل العرب أمام هذا التحول الجدّي.

ما حصل من اتفاقات وتوافقات في ملفات عدة، جزئيات يمكن حدوثها في ميدان العلاقات الثنائية التقليدية، مثل المصادقة على ضم جزيرتي تيران وصنافير إلى السعودية بعد أن كانت خاضعة للولاية المصرية، وهما جزيرتان ذات أهمية استراتيجية في مدخل البحر الأحمر.

لا أهمية عملية استثنائية جدّية لوجود الملف العراقي في قمة جدة رغم الاهتمام السياسي للزعيم السعودي محمد بن سلمان برئيس الوزراء مصطفى الكاظمي. كذلك الاهتمام الخاص الذي أبداه بايدن في تصريحاته ومدحه العالي لشخص مصطفى الكاظمي، في إشارات تبدو مهمة للدخل العراقي.

الاهتمام الخليجي بالعراق ينطلق من رؤية استراتيجية تجد في الحرص على بقائه منفتحاً على محيطه العربي مهمة ومسؤولية قومية، خصوصاً بعدما حصل من تدهور كبير في أمن شعبه واقتصاده ومجتمعه ونفوذ الغرباء داخله.

القوى السياسية الحاكمة في العراق، خصوصاً خلال فترة تولي إبراهيم الجعفري ونوري المالكي مسؤولية السلطة، دائما ما كانت تروج الاتهامات للرياض بأنها مصدّرة لفرق الإرهابيين. وهي مخادعة كبيرة. مصادر فرق الإرهابيين معروفة دائماً، سوريا وإيران، ومحركوها هم أنفسهم.

اتفاقية ربط شبكة الكهرباء الجديدة رغم أهميتها الاستراتيجية، حيث توفر الطاقة الكهربائية بأسعار رخيصة جداً للعراقيين وتتيح لهم الخروج من الأسر الإيراني، لن تسمح طهران بتمريرها من خلال وكلائها في العراق.

سيمجّد مصطفى الكاظمي نفسه وأهمية دوره في ترتيب اجتماعات السعوديين والإيرانيين، من أجل التجديد له لمنصب رئاسة الوزراء، أو إدارته لحكومة تصريف أعمال إذا ما تقرر حل البرلمان وإقامة انتخابات مبكرة.

هل سيتمكن الكاظمي من الاستفادة من قوة الدفع الخليجية والعربية والأميركية الهائلة، حتى لو حصل التجديد له لستة أشهر، فالقادة الشجعان يمكن أن يفعلوا الكثير حتى لو أتيحت لهم الفرصة لشهر واحد، أم ستنقصه شجاعة القادة، وبذلك لن تنفعه ذاكرة صحافي شاهد على الأحداث فيما يتمكن من صناعة التغيير الثوري لصالح العراقيين.

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *