سياسات إيران الخارجية، التي تعتمد على مبدأ “حافة الهاوية” لم تترك لها صديقا حقيقيا، وحتى دولة أذربيجان التي تجاورها وتشترك مع جزء كبير من سكانها في القومية والدين والمذهب واللغة، أصبحت عدوا في نظر طهران، يهدد أمنها وسيادتها ويتحالف مع أعدائها!
وهذا الخطر الأذربيجاني المُتخيَّل، الذي يذكِّر بمغامرات (دونكيخوتي) في رواية ميغيل دي ثرافانتيس الشهيرة، التي كان يتخيل فيها أعداءَ غير موجودين ويدخل في معارك وهمية تنتهي بهزائم دامية، قد دفع إيران لإجراء مناورات عسكرية على طول الحدود مع أذربيجان، أطلقت عليها اسم (خيبر)!، مبررة ذلك بالقول إنها “لن تتساهل مع وجود الكيان الصهيوني قرب حدودها”! والمعروف أن إسرائيل تبعد عن إيران أكثر من ألفي كيلومتر، ولا توجد قضية خلافية بينهما، بل إنهما تعاونتا استخباريا وعسكريا ضد العراق طوال فترة الثمانينيات، إذ كانت إسرائيل تبيع السلاح لإيران أثناء حربها مع العراق.
جارة إيران الأخرى، تركيا، لديها مشاكل كثيرة مع إيران، أهمها دعمها لحزب العمال الكردستاني، حسب ما نشره موقع قناة تي آر تي التركية، لذلك وقفت تركيا مع أذربيجان، في صراعها مع أرمينيا حول مقاطعة ناغورني كاراباخ، التي استعادت معظمها في حربها مع أرمينيا في العام الماضي.
أما روسيا، المتشاطئة مع إيران على بحر قزوين فقد تخلت عن أرمينيا في حربها مع أذربيجان لأنها ترى مصالح أكبر لها مع الأخيرة، حسب الخبير في معهد كارنيغي، أليكساندر غابويوف، إذ لم تفِ بالتزاماتها الدفاعية تجاه يرفان، متحججة بأن المعاهدة الأمنية بينهما تتعلق بحدود أرمينيا المعترف بها دوليا. وقد رعت اتفاق الهدنة بين البلدين وأرسلت مراقبين لحفظ السلام. كما أن المواقف الروسية بدت أكثر تباينا في الآونة الأخيرة مع المواقف الإيرانية في قضايا كثيرة أخرى.
بينما اتسمت علاقات جارتها الجنوبية، باكستان، بالقلق وعدم الثقة وهناك مخاوف وخلافات سياسية مع إيران، خصوصا المتعلقة بأفغانستان وكذلك باضطهاد قومية البلوش التي يقطن معظم أفرادها في باكستان وأفغانستان، إضافة إلى التدخلات الإيرانية في الشؤون الداخلية للبلدين.
وقد دفع هذا القلق من سياسات إيران في المنطقة كلا من باكستان وتركيا، على رغم اختلافاتهما السياسية والقومية، وبعدهما الجغرافي، لإجراء مناورات عسكرية مشتركة مع أذربيجان، تحت عنوان “الأخوة الثلاثة” تهدف إلى إيصال رسالة لإيران مفادها أنهما تقفان مع أذربيجان ضد التهديدات الإيرانية.
أما الجارة الشرقية لإيران، أفغانستان، فقد سيطرت عليها حركة طالبان، النقيض المذهبي والأيديولوجي لنظام ولاية الفقيه، الأمر الذي أقلق قادة النظام الإيراني وجعلهم يتخبطون في سياساتهم تجاه تغير الحكم في أفغانستان، على الرغم من أنهم تمتعوا بعلاقات جيدة مع طالبان عندما كانت تعارض الحكومة الديمقراطية السابقة.
لكن تولي طالبان الحكم، واحتمالات أن تكون هناك حكومة قوية في أفغانستان متفاهمة مع العالم، دفع النظام الإيراني إلى مطالبة طالبان بتشكيل حكومة “تمثل كل مكونات الشعب الأفغاني الأثنية والسياسية”! ما أثار غضب قادة الحركة الذين ردوا بالقول إن على إيران، قبل أن تعطي دروسا في الحكم للبلدان الأخرى، أن تشكل حكومة مماثلة في طهران، يشارك فيها البلوش والعرب والكرد والأذريون، إلى جانب الفرس، وتكون متنوعة سياسيا وليست من لون واحد.
أما جار إيران الغربي، العراق، فقد عانى كثيرا خلال العقود الخمسة المنصرمة من التدخلات الإيرانية في شؤونه، من دعمها حركة الانفصال المسلحة في الشمال والتي دفعته لتوقيع اتفاقية الجزائر التي تنازل فيها لإيران عن حقه في السيادة الكاملة على شط العرب، إلى مواصلتها حربا ضروسا ضده لثماني سنوات، اسفرت عن مقتل وجرح أكثر من مليون عراقي، بالإضافة إلى الخسائر المادية التي تقدر بمئات المليارات من الدولارات.
ولو توقف الامر عند تلك المآسي لهانت الأمور قليلا، لكن تأسيسَ إيران مليشياتٍ مسلحةً تابعةً لها ونشرَها في العراق كي تزعزع أمنه وتدمر اقتصاده وقطاعاته الإنتاجية ليبقى دائما يعيش في أزمات متتالية ويستورد المواد والخدمات الاساسية، وكي تسيء إلى علاقاته الدولية عبر مهاجمتها السفارات والمطارات والمصالح الدولية، وتقتل الصحفيين والأكاديميين والمهنيين والطيارين والعلماء وأصحاب الرأي، أثار العراقيين ودفعهم للثورة على نظامهم السياسي الذي سمح بذلك، وظلوا يرددون مثلا يشير إلى إيران حصرا وهو “كومة أحجار ولا هالجار”!
لكن السؤال الذي يطرحه كثيرون هو ما الذي فعلته أذربيجان وأزعج إيران ودفعها لتحشيد قواتها على الحدود معها؟ المسؤولون الأذربيجانيون يقولون إن انتصار أذربيجان على أرمينيا أزعج إيران. ولكن لماذا؟ صحيح أن حكام إيران لا يريدون دولة قوية مجاورة لهم، فهناك عنجهية إيرانية قديمة تدفعهم للتعالي على الشعوب الأخرى والتصرف بفوقية فاقعة، ولكن يبدو أن هناك أمرا آخر.
هناك ما يقارب 30 مليون أذري في الجزء الإيراني من أذربيجان، وهؤلاء بالتأكيد يعتبرون دولة أذربيجان تمثلهم قوميا، وأن نجاح هذه الدولة سياسيا واقتصاديا وعسكريا يقلق النظام الإيراني ويخلق له مشكلة داخلية، لذلك يريد أن يبعث رسالة إلى الشعب الأذري في إيران بأنه لن يسمح بتوحيد شطري أذربيجان، وهو طموح يراود الأذريين جميعا، وكذلك لإخافة جمهورية أذربيجان من أن تتوجه بخطاب قومي تجاه الأذريين الإيرانيين.
وكان الأذريون الإيرانيون قد نظموا احتجاجات واسعة عام 2006، في المدن الأذرية وهي تبريز وأرومية ومراغة وزنجان وأردبيل، أثناء ولاية الرئيس الأسبق أحمدي نجاد، والتي قمعها النظام بشراسة وقتل على الأقل 4 محتجين أذريين، بينما يقول الناشطون الأذريون إن عدد القتلى بلغ 20 شخصا. وعلى الرغم من وجود استياء عام بين الأذريين الإيرانيين من التعالي الفارسي عليهم، والذي يختصره الخبير في مكافحة الإرهاب، علي كوكنار، بالتعبير الذي يستخدمه الفرس للإشارة إلى الأذريين “توركي خار”، أو “حمار تركي”، وقد دوَّن ذلك في مقاله في معهد واشنطن، إلا أن الذي فجّر تلك الاحتجاجات كان نشر جريدة “إيران جمعة” الرسمية كاريكاتيرا يصور الشعب الأذري على أنه صرصور!
النظام الإيراني على ما يبدو يخشى من أي نجاح تحققه الدول المجاورة، لأن مثل هذا النجاح سوف ينبه الشعب الإيراني إلى فشل نظامه السياسي في تحقيق الرخاء والاستقرار والتقدم الذي ينشده، ولهذا السبب يسعى بقوة لزعزعة استقرار البلدان المجاورة كي يظهر بأنه قوي ويتحكم في البلدان الأخرى، لإيهام العالم بأنه نظام قوي، ودغدغة مشاعر الإيرانيين بأن دولتهم في ظل هذا النظام أصبحت قوة عظمى يمكنها أن تحقق ما تريد.
كما استاءت إيران أيضا من تفتيش السلطات الأذربيجانية للشاحنات الإيرانية المارة عبر أراضيها وفرض رسوم جمركية عليها، إذ كانت سابقا تمر مجانا عندما كانت أرمينيا تسيطر على منطقة كارباخ، لكن أذربيجان استعادتها عسكريا وبدأت تفرض رسوما على الشاحنات الإيرانية المتجهة إلى أرمينيا، خصوصا وأن بعضها يحمل أسلحة، فإيران لم تخفِ دعمها لأرمينيا في النزاع مع أذربيجان، علما أن الأذريين الإيرانيين تظاهروا دعما لجمهورية أذربيجان في حربها مع أرمينيا.
ويرى ماثيو بريزا، السفير الأميركي السابق لدى أذربيجان وكبير الباحثين في المجلس الأطلنطي، أن الهدف من الانتشار العسكري الإيراني على الحدود مع أذربيجان هو “إشارة داخلية”، يُقصَد بها الأذريون الإيرانيون، أي أن المسألة هي قلق النظام من تفكك إيران الذي أصبح محتملا. فإضافة إلى القضية الأذرية، هناك الآن حركات انفصالية كردية وعربية وبلوشية، وحركة وطنية إيرانية تناهض النظام وتكسب تأييدا بمرور الزمن، وكل هذا الحراك يأتي نتيجة لتشدد النظام وفرضه قيودا على الحياة وتضييقه على الحريات العامة والخاصة وقمع القوميات الأخرى، وتبديده أموال البلاد على حروب خارجية لم تجلب له سوى العقوبات الدولية.
يقول المحلل السياسي التركي، أشرف يالينكيليجي، المستقر في موسكو، في مقابلة مع قناة تي آرتي، إن هناك مخاوف سياسية متواصلة في إيران من أن تتحد باكو، عاصمة أذربيجان الشمالية، مع تبريز، عاصمة أذربيجان الجنوبية، في قابل الأيام، كما أن فكرة “أذربيجان العظمى” ما تزال عاملا مهما في التفكير السياسي في أذربيجان. أما في إيران فإن “أذربيجان العظمى” تعتبر تهديدا للمؤسسة الإيرانية الحاكمة التي لجأت إلى دعم أرمينيا من أجل كبح الطموحات الأذرية.
سياسات النظام الإيراني اعتمدت دائما على مبدأ “حافة الهاوية”، أي الوصول بالأحداث إلى نهاياتها الخطيرة، ثم اتخاذ مواقف مناقضة في اللحظة الأخيرة، وقبل الوقوع في الهاوية. لكن هذه السياسة خطيرة جدا وهي نفسها التي اتبعتها أنظمة أخرى وتسببت في سقوطها. اتبعها النظام الإيراني في الحرب مع العراق، وظل لثماني سنوات يصر على تحقيق النصر العسكري، لكنه في اللحظة التي شعر بها بأن الحرب ستطيح به، “تجرع السم” وغير رأيه وقبل بقرار وقف إطلاق النار.
صمود أذربيجان في وجه التهديدات الإيرانية، ومساندة كل من باكستان وتركيا لها، وإجراء تمارين عسكرية مشتركة معها، وانتفاضة الشعب العراقي ضد التبعية لإيران، ونتائج الانتخابات العراقية الأخيرة التي خسرت فيها القوى الموالية لإيران، ومساندة الدول العربية والمجتمع الدولي للعراق، والقبول الدولي بطالبان، وتباين المواقف الروسية مع المواقف الإيرانية، جعل النظام الإيراني يعيد حساباته ويتخذ مواقف أكثر ليونة تجاه أذربيجان والعراق وأفغانستان. لكن هذه السياسة برهنت على فشلها لأنها تستند إلى أرضية هشة، فقد ضَعُفت ثقة الدول الأخرى بالنظام الإيراني، وأصبحت أكثر حذرا منه، بل تبحث عن وسائل أخرى للتعامل معه، خصوصا وأنه على الأرجح سيغير موقفه عندما يشعر بالقوة مرة أخرى، فيعود لممارسة سياسات حافة الهاوية. لكن الوقوف على الحافة ليس دائما أمينا، خصوصا مع تزايد هشاشة الأرض.