مَثلُ مقتدى الصدر كمثلِ تلك التي ضُرب بها المثل الشعبي في العراق: “عرب وين، طنبورة وين”. وأقرب ترجمة له هي: “الناس بأي حال، وطنبورة بأي حال”.وللمثل حكاية. هي أن أعرابيا تزوج امرأة طرشاء وخرساء، اسمها “طنبورة”. فعلّمها أنه كلما أراد مضاجعتها، أن يفرش عباءته على الأرض، فتنام عليها، لأداء اللازم. وحيث أن العشائر المتنازعة كثيرا ما تهاجم بعضها، في نزاع على الأرض أو الماشية وما شاكل ذلك، فقد حدث أن قامت عشيرة منافسة (تشبه “الإطار التنسيقي”) بمهاجمة عشيرة ذلك الأعرابي (تشبه “التيار الصدري”)، فلم يكن من الرجل إلا أن سارع مذعورا إلى خيمته ليلملم ما وسعه من أغراض، ففرش عباءته على الأرض.
فإذا بطنبورة تتمدد على العباءة. فذهبت مثلا.وهذا هو بالضبط ما فعله مقتدى الصدر. فبينما العراق بأي حال، فانه خاطب “العالم” (عالمه الوهمي)، بكل ما فيه من المؤمنين والمؤمنات بأن يتحدوا ضد “المجتمع الميمي”، ليس بالعنف (على اعتبار أن الرجل صار المهاتما غاندي في معارضته لحمل السلاح) وإنما بالنصح والإرشاد والعلاج.هذا يعني أن العراق بأحسن حال، وأنه لا مشاكل لديه ولا أزمات، وأن شغله الشاغل هو “المجتمع الميمي”، ما يدفع “زعيما سياسيا” لينشغل به. هو الذي كاد، قبل أشهر قليلة فقط، أن يقلب البلاد ومحيطها الإقليمي وعلاقاتها الدولية “رأساً على عقب”. فإذا به يترك كل شيء ويجد ضالته في “المثلية الجنسية”، باعتبارها “أم المشاغل”.
شدّ الصدر عمامته وعباءته ليخرج بذلك النداء إلى “العالم”. ومن ثم لتكتشف أنه ليس أطرش وأخرس فحسب، ولكنه أعمى أيضا.هذا النداء يفترض، لو بقيت لهذا الرجل ذرة عقل، أن يكون آخر فضائحه، فيصمت إلى الأبد.لقد اختار الصمت بنفسه، من الأساس. وبدلا من البحث عن قضايا هزيلة لينشغل بها، فإنه يخدم نفسه أكثر، لو تعلم صنعة أخرى، غير صنعة استخدام تويتر للإدلاء بتصريحات من مستواه الفكري المتدني.
والحقيقة هي أنه لا يوجد “مجتمع ميم” في العراق. ما هو موجود مجرد انتهاكات وأعمال اغتصاب للأطفال. أي جرائم من فضلات التفسخ العام. ذلك التفسخ الذي جعل هذا البلد يحتل أعلى قوائم الفساد والجريمة المنظمة والعنف والفشل الإداري والفقر والبطالة والتزوير الميليشيات وعصابات النهب.
أما الدجل السياسي والطائفي، أو السياسي-الطائفي، فقد أصبح هوية رسمية للدولة حتى لتتقسم الحكومة فيه إلى حصص ومقاطعات، تتوزع على كل نهّاب وأفّاق من قادة “العملية السياسية”. وهذه بدورها، تعبير مراوغ عن أكبر “عملية نصب”، لم يتعرض لها أي بلد في العالم، لا الآن، ولا عبر التاريخ البشري كله. فلئن كان اللصوص في ماضي العراق يسرقون منازل أو محلات، فإنهم صاروا يسرقون مليارات الدولارات، بفضل “نخبة” المشروع الطائفي و”سياسييها” الذين لم يحرسوا البلاد إلا ليحرسوا اللصوص فيها.
هذا هو العراق الذي ينشغل الصدر فيه بمجتمع الميم.
لا حاجة لسؤال أي أحد في العراق: أيهما أشرف وأطهر، “مجتمع الميم” هذا أم جماعات المشروع الطائفي التي قادت البلاد إلى الخراب؟ وأيهما أشرف وأطهر، “مجتمع الميم” هذا، أم عمائم الرذيلة التي ظلت تتواطأ مع منظمات الجريمة والفساد التي قادت العراق منذ العام 2003 إلى اليوم، حتى نهبت وبددت مئات المليارات، وأفقرت الملايين، ودمرت الصناعة والزراعة والإنتاج، لترتع من عائدات النفط فقط؟
لا حاجة لسؤال أحد. لأن الجميع يعرف الجواب، ويراه.
لقد ترك الصدر السلطة والبرلمان لعشيرة “الإطار التنسيقي”، وأعلن استقالته من السياسة. ربما لكي يستر عارا تعرض بسببه للابتزاز. من ناحية، ليكشف عن أنه كان مجرد فقاعة صابون في بيئة العراق الراهنة، ومن ناحية أخرى، ليثبت أنه أقل كفاءة من الجماعات التي شاركها السلطة لنحو عقد ونصف من الزمان. ومثلما هددها بخوائه السياسي، فقد هددته وسخرت منه وأطاحت به بأقل جهد ممكن.
وهذا واقع يُملي بعض الأسئلة.
ـ لماذا لا يتعلم الصدر الصمت؟ فيغني جهله وسطحيته، المزيد من الفضائح؟
ـ لماذا لا يفرغ نفسه للقراءة، لعله يتعلم منها شيئا؟
ـ لماذا “التيار الصدري” ما يزال موجودا، بينما لم يعد له معنى ولا دور، مثلما لم يعد له “قائد”، وقائده مستقيل من الأساس؟
ولكن السؤال الأكثر إيلاما هو: هل يرى العراقيون عمق البلاء الذي وصلوا إليه؟ هل يرون أنهم باتوا في قاع القاع ليس في السياسة وحدها، ولا في الاقتصاد، بل وفي كل وجه من وجوه الحياة، وأنهم مجتمع مشلول، يقودهم رعاع، ويتحكم بمصائرهم أدعياء ومعممون، يخجل الجهل من جهلهم، وتخشى الأمية على نفسها من أميتهم.
“مجتمع الميم” ظاهرة موجودة منذ غابر الزمن. قوم لوط، من هذه المنطقة أصلا. ولكن الصدر، مثله مثل العشيرة المنافسة لتياره، آخر من يحق له أن يكون حارسا على القيم والأخلاق في المجتمع.
لماذا؟
1ـ لأنهم عندما انقادت لهم البلاد، قادوها إلى الخراب.
2ـ لأنهم فاسدون، وإذ لاطوا بالمال العام، فقد لاطوا بحياة ملايين الناس، حتى لم يعد يزيد ولا ينقص شيئا لو أنهم صاروا من قوم لوط، رسميا.
3ـ لأن أيديهم ملوثة بدماء مئات الآلاف من الأبرياء. وصابون العالم كله لا يكفي لغسلها، فما بالك بالنفاق؟
4ـ لأن نظام المحاصصة الطائفية هو نفسه لواط سياسي واجتماعي وإداري، أدى إلى تفكيك ليس مؤسسة الدولة وحدها وإنما إلى تفكيك المجتمع نفسه، حتى لم يعد العراقيون في بلدهم يعرفون مَنْ هم. وضاعت هويتهم الوطنية لتحل محلها هويات بديلة.
5ـ لأن أعمالهم، بما فيها رعاية نوادي الرذيلة، تدل عليهم، بما لا يحتاج منهم أن يقدموا المزيد.
6ـ لأنهم جمعوا ما لم يجتمع في أحد من موبقات الخيانة والتواطؤ والتآمر على مصالح بلادهم وسيادتها واستقلالها، مما كان عشر معشاره يكفي لتعليق المشانق لهم.
7ـ لأنهم لا يرعوون، لا من انتقادات وتحذيرات ولا من احتجاجات.
8ـ لأنهم متدنو الثقافة، منخفضو التعليم والمعرفة، وصغار النفوس من الأساس.
9ـ لأنهم لا يتقون دينا قد يقول إنهم في العصر، و”إن الإنسان لفي خسر”.
10ـ لأنهم في حالٍ، بجمعهم برمته، والبلاد كلها في حال آخر.