وللدستور.. رواقٌ في بغداد

وللدستور.. رواقٌ في بغداد
آخر تحديث:

بقلم:عامر ممدوح

تشرفت قبل أيام بحضور المؤتمر الماتع والنافع الذي أقامه مركز رواق بغداد للسياسات العامة، وبالتعاون مع المنظمة الدولية للديمقراطية والانتخابات، وحمل عنوان (دستور جمهورية العراق 2005؛ التقييم وبناء رؤية جديدة)، وكنت قبلها قد شاركت باعتزاز في عدد من جلساته الحوارية بهذا الخصوص.ورواق بغداد مركز بحثي واعد، له من مقومات النجاح الكثير، بدءاً من كادره المتميز وانتهاءً بأفقه الواسع وخططه الطموحة، والصبر الاستراتيجي الذي يحمله من أجل تحقيق أهدافه.المؤتمر الذي اعتمد رؤية محددة وهي (التعديل) وليس (الاستبدال) للدستور، قام بشيء مغاير وجديد، ففضلاً عن الجهد الكبير والضخم الذي بذله طيلة عام كامل، والمحاولة الناجحة في استيعاب كافة التوجهات والانتماءات، قدم صورة جديدة تتمثل ببناء صياغات قانونية بديلة رؤية لمواطن الخلاف كتبت على أيدي مجموعة من أصحاب الاختصاص وقدمت من قبلهم وعلى مراحل وخطوات.

كما ان هذا العمل استند على سلسلة من المقابلات مع أشخاص مطلعين شاركوا بكثافة في العملية الدستورية في العراق، وبينهم أعضاء بارزون في لجنة صياغة دستور 2005، ولجان مراجعة الدستور اللاحقة، وكذلك شخصيات سياسية بارزة أثرت في العملية ولا تزال تشارك في النقاشات المتعلقة بالدستور، مع إجراء استطلاعين للرأي الأول عام والثاني متخصص مع قانونيين بارزين وشخصيات اكاديمية وأخرى سياسية لمعرفة آرائهم بالدستور، مع تنظيم عدداً من ورش العمل التي ضمت ممثلين عن كافة مكونات المجتمع العراقي، وتقديم خلاصة للأحداث الدستورية المهمة والمؤثرة على مسارات الحياة السياسية العراقية.

وعلى الرغم من أن هذا الملف متشعب وكبير جداً ولا يسعه مقال، لكن اجد من النقاط الواجب الوقوف عندها تدور حول محورين: الأول: ما أفرزه عمل مركز رواق بغداد من نتائج هي انعكاس واضح للواقع العراقي، والثاني: رؤى خاصة كنت قد دونتها مسبقاً وأجد من المهم تثبيتها هنا.فأما المحور الأول: فان استطلاعات الرأي، واللقاءات المباشرة وورش العمل أظهرت ان حالة انعدام الثقة ما تزال تؤثر على مزاج الجمهور العراقي، وهي نتيجة طبيعية للإخفاق المستمر في الأداء السياسي والذي بات يحتاج إلى عملية ترميم عاجلة ودون تأخير.وذلك يتضح مثلاً من عدم تحفز الجمهور لمعرفة مضمون الدستور، على الرغم من استهدافه بالاتهام بين الحين والآخر، وهو أمر وإن كان ملفتاً لتناقضه من جهة ولكنه يبين حالة عدم الاهتمام التي تزيد منها بشكل مستمر تراكمات الفشل العراقي، وذلك يبرز من مقاطعة النسب التي أفرزتها نتائج الاستطلاع العام بين عدم الاطلاع على الدستور اطلاقاً (47,5 %) بسبب عدم الاهتمام (42,4 %) وبين التصويت بنعم عليه (52,75 %) خلال الاستفتاء خلال عام 2005، وفي ذلك مفارقة كبيرة، ولا سيما اذا وضعناها جنباً إلى جنب مع الإلحاح على تعديل الدستور ( 68,0 %) !!، وهذا مثال واحد وهناك غيره الكثير مما يحتاج إلى دراسات وتحليلات مستفيضة لعلها تتاح في مناسبة لاحقة.

ولكن الدعوة إلى تعديل الدستور، التي كانت عنواناً أساسياً لهذه الفعالية ونتيجة مهمة من نتائجها، تحقق القناعة بالحاجة لتلك المهمة دون إغفال، مثلما أنها تستدعي وتستوجب تحقيق وجود وامتلاك الرؤية الوطنية الموحدة تجاه هذا التعديل وكيفيته، حتى لا نقع بذات الإخفاق الأول.ولا ننسى كذلك الدعوة إلى اعادة النظر بطبيعة النظام السياسي، وتعديله بما يتوافق مع المتغيرات الجديدة التي ظهرت بشكل واضح خلال جلسات المؤتمر والتي كشفت عن تغير الكثير من التصورات بفعل المتغيرات المجتمعية والأحداث القاسية التي مرت على عراقنا العزيز، ووهن الهوية الوطنية، وحالة الصراع المتنامية بين الأجيال، وبقاء شعور انعدام الثقة بين المكونات من جهة اخرى.أما المحور الثاني بهذا الخصوص، والذي يتعلق بجملة الملاحظات التي تم تدوينها سابقاً، فيمكن ايرادها هنا على سبيل الإيجاز والاختصار:

فيبدو من المهم القول ابتداءً هنا ان فكرة (التعديل) لا بد منها كونها تمثل حاجة فطرية واستجابة للمتغيرات وتعبير عن محدودية فكر الانسان، فالدستور بحاجة لمواكبة كل ذلك، وسد الثغرات الموجودة، واعادة توزيع الصلاحيات بشكل اكثر دقة، وتطوير النظام السياسي، وبما يجعل منه وثيقة وطنية جامعة.وإذا كان الدستور معبراً عن مرحلة استثنائية وحالة من انعدام الثقة سابقاً، فإن اعادة صياغته ودعوات تعديله تحت وطأة شعور الاخفاق والعجز التام للنظام السياسي، لا يقل ضرراً ويعيد تكرار المشكلة نفسها.لقد عبر الدستور عن أزمة راهنة ونقل هواجس من كتب نصوصه، ومشكلته الجوهرية تكمن في طغيان الإرادة السياسية على الارادة القانونية، وإذا كان تعديل الدستور واجب، فإن تطبيقه بصرامة أوجب، ومثلما يقال دوماً ان التاريخ يكتبه المنتصر، نقول هنا الدستور يطبقه المنتصر، ولا بد من توفير عوامل نجاح التعديل الدستوري والتي يمكن اجمالها بالاستقرار السياسي، وتوافر أصحاب الخبرة والاختصاص، ومنح الوقت الكافي للإنجاز وربما لسنوات.

اما خطايا النظام السياسي فهي تتراكم اليوم بسبب عاملين: الأول: التوافق (استبدال العلاج بالترضية)، والثاني: الترحيل (تأجيل ألم المعالجة مؤقتاً)، فالنظام السياسي العراقي يعاني اليوم من التأكل، والفوضى التي توظف الخلل الدستوري، ومن مقترحات العلاج بهذا الخصوص: استكمال النظام الاتحادي: تأسيس مجلس الاتحاد، واعادة تنظيم العلاقة بين المركز والاقليم، وترشيد الانتخابات (النظام الانتخابي/ المفوضية/ تمويل الحملات الانتخابية).

ويثار دوماً بهذا الخصوص موضوع شكل النظام، ونجد من المهم تأسيس السؤال منهجياً، فهل السبب بالخلل اليوم بالنظام البرلماني ام مجلس النواب؟ وهل السبب النص أم فهمه أم تطبيقه؟! لأن كل جانب له توصيفه وعلاجه المختلف.نعم، النظام البرلماني ضعيف ولكنه جزء من ضعف عام تعانيه العملية السياسية، والاختلال العملي أصبح أكثر وضوحاً من الاختلال النظري، وبالتالي فليس الحل المطلوب السماح بتغول سلطة على أخرى أو منح الأداة لتحقيق ذلك، فالتوازن يبقى هو الأصل، لأن ضعف العمل البرلماني متأتي من تعطل فاعلياته الرقابية والتشريعية والتأسيسية، وذلك مرده إلى أسباب عدة منها حداثة التجربة العراقية، واستثنائية الظرف الحالي، وتقاعس البرلمان عن أداء وظائفه السياسية.

وعلى الرغم من ادراكنا الخلل الحاصل بالبرلمان، فإننا ندرك كذلك ان هناك توجهاً لتحميله كافة خطايا العملية السياسية، تماماً مثلما سادت النظرة إلى البرلماني على أن عمله مختص بالتعيينات وتبليط الشوارع!.ان البرلمان الحالي هو انعكاس للحالة السياسية الحزبية المتسمة بالتنازع والصراع، وبما ان غالبية الدول تتجه اليوم إلى النظام البرلماني، كونه الأكثر قدرة على مراقبة ومحاسبة الحكومة، فالحل الأفضل الذي نراه بهذا الخصوص يتمثل بترشيد العمل البرلماني عبر استكمال التشريعات ورفع سطوة الضغط السياسي وتفعيل البرلمان والعقوبات داخله، واعادة بناء وتصحيح العملية السياسية ككل، وقبل هذا وذاك توفير حالة الالزام لتطبيق الدستور وكافة التشريعات.وفي ظل كل ذلك تبدو الدعوة إلى استبدال النظام البرلماني بالرئاسي غير ممكنة لأن البيئة العراقية غير مهيأة وهناك تخوف من عودة الدكتاتورية من خلاله، فإذا كنا ضمن النظام البرلماني ونجد هيمنة سلطة على أخرى، فكيف يتم ضبط الأمور مع وجود نظام رئاسي؟!

وتبقى العبرة ليست بالنظام ومدى جودة الصياغات، ولكن بمدى احترامه والاجماع الوطني على تطبيقه.وختاماً: لا بد من التأكيد هنا على ان طرح موضوع تعديل الدستور مجدداً بعد عدة محاولات لم تر النور ولأسباب مختلفة، نبه وبشكل جاد إلى أن العراقيين ما زالوا مخلصين لهذا الوطن مهما واجهوا من صعوبات وتحديات ومعاناة، وان حنينهم ليس إلى فكرة معينة أو نظام محدد بقدر ما هو تطلع مشروع إلى ترسيخ الحكم الرشيد وتطبيق الديمقراطية كما ينبغي لها ان تكون، ونتطلع جميعناً إلى الوصول إلى ذلك الهدف وألا يبقى خيالاً يداعب مشاعرنا مثلما كان وما زال!لكل القائمين على هذه الفعالية تحية وتقدير على منح الدستور هذا الرواق المهم.. ودعوات مترافقة بالتوفيق والنجاح.

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *