لم يكن المسرح العراقي منذ تأسيسه وحتى يومه هذا منغلقاً أو حذراً أو منكفئاً بل كان ومن خلال العاملين والمشتغلين في فضاءاته على اختلاف توجهاتهم ومشاربهم وابتكاراتهم وبحثهم متنوعاً، متجدداً، منفتحاً، راغباً في المعرفة والاجتهاد من أجل التطوير والإجادة والتميز، لذا حين يحل المسرح العراقي في تجاربه المتنوعة الرائدة منها والشبابيّة في أي محفل عربي يحدث حضوراً لافتاً ويبعث جدلا ونقاشاً متواصلا، وفي أحيان كثيرة يكون مصدر قلق وحذر وتتبع لجرأة تجاربه ومغايرتها للمألوف مما يجعل المتابعين والمتلقين يتساءلون أهذا الفريق العنيد والمشاكس في رؤاه واشتغالاته آت من الأرض العراقية التي يصورها الإعلام الغربي وحتى العربي بالارض الملغومة بالقتل والموت ولون الرماد؟. المسرح العراقي والذي مرت به الكثير من المحن والتحولات فحاصرته بالممنوع والمحذور والخطوط الحمراء والصفراء وحاولت أن تزرع بين الفاعلين والمشتغلين والمفكرين فيه عقولا ظلاميّة ومتخلّفة وتابعة ومبيوعة الذمم ليبثّوا سموم أفكارهم ويشوهوا طبيعة التجارب وينالوا من المنجز وصاحبه!، لكن المسرح العراقي بقيَ صامداً، نشطاً يسعى ليكون حاضراً وشاهداً وموثقاً فكان لكل مرحلة وفترة من تاريخ العراق السياسي والإنساني خطاب جمالي وفكري وفني يعلن عن الحقائق ويوثق الأحداث عبر عروض مسرحية تنوعت في غناها وقراءاتها الفلسفيّة والتأويليّة والتحليليّة التي لا تغفل الجمال والحداثة في التجريب والبحث والابتكار الذي يصب في انضاج المنجز وتميزه وليس في المغالاة والتزويق والحذلقة. ولم يتوقف المسرح العراقي عن اقامة المهرجانات المحلية فكانت أغلب المحافظات العراقية تقيم مهرجانات للعروض المسرحية المونودرامية أو المسرحيات الكبيرة وتستضيف تلك المهرجانات عروضا منتقاة من محافظات أخرى لخلق حالة من التنافس والتحفيز، وما كانت تلك المهرجانات سواء التي أقيمت في بغداد أو البصرة أو الناصرية أو أربيل أو المثنى أو النجف إلّا وسائل ترويج وتثقيف بأهمية المسرح وضرورته، ولم تغفل تلك المهرجانات الاحتفال بالطفل والتراث، فكانت هناك احتفالات وملتقيات تعنى بالكتابة للطفل وتحرص على التعريف بأهمية تنويره تربية وبناءً، واستلهام التاريخ الناصع للتراث العربي بشقيه الديني والتراثي، وبعض من تلك المهرجانات توسعت بهمة القائمين عليها فتحولت إلى مهرجانات عربيّة استقطبت كتاباً ومخرجين ونقادا من أنحاء الوطن العربي، وتحول مهرجان بغداد المسرحي في دوراته الثلاث الى مهرجان دولي استطاع أن يجعل من المسارح العراقية موطناً لعروض عالمية وعربية بتجارب فنية مختلفة. وبذلك بقي المسرح العراقي منجزاً ومعطاءً برغم شحِّ الميزانيات وعدم توفر الدعم الكافي مع وجود تلك النظرة الاستعلائية لمن يتولى زمام الأمور في الثقافة ومرافقها، ويعدّ الفنون بكل تجلياتها كماليات وأموراً ثانوية يمكن الاستغناء عنها لأجل عسكرة المجتمع متناسيا أن بناء وعي الانسان العراقي هو الركيزة الأولى في حفظ الاوطان وتعزيز روح المواطنة، لذا كان العراق مؤهلا لاستقبال مهرجانات عربية كبيرة داخل أراضيه لأنّ له من طول التجربة وتوفر الآليّة والبنى التحتية رغم حاجة بعضها إلى التأهيل والادامة ما يمكنه من النهوض بمهمته في توطين هذا المهرجان العربي أو ذاك المهرجان الدولي ولم تكن حجة عدم توفر الجانب الاستقراري والانفلات الأمني إلّا ذريعة لإبعاد العراق عن حاضنته العربية وتشديد طوق الحصار المفروض على مبدعيه، ميزة المسرحي العراقي والذي هو سليل البنّائين والمبتكرين والمخترعين الأوائل أنّه لا يعرف التوقف أو النكوص أو الخضوع لما يقسر عليه ولا يتناسب مع تطلعاته المشروعة. فمع غياب الدعم المادي والرعاية الحكومية ومع إغفال وجود الفنان العراقي في مواقعه التي يستحقها في القيادة والتخطيط والاستشارة ومع عدم إدراج المتطلبات الفنيّة واللوجستيّة في الموازنة العراقيّة وإهمالها إلا أنه مصرّ على العمل والإبداع واستحداث البدائل وتشغيلها لتحقيق هدفه ومسعاه في حضور واعٍ ومضيء للمسرح العراقي في أي محفل عربي يدعى إليه بما يتناغم وطموحه وحرصه على أن يكون ملفتاً ومتفرداً في ذاك الحضور والانجاز. لذا أصبح لزاماً على الحكومة العراقية وهي تضع الخطط وتصمم المسارات لخلق حالة من الاعمار والبناء والتطوير أن تضع حركة المسرح العراقي والمشتغلين فيه ومعه أمامها وأن تشركهم في بناء بيتهم الذي يحلمون به والذي يليق بصبرهم ومثابرتهم وصدق انتمائهم.