الديمقراطية عندهم وعندنا

الديمقراطية عندهم وعندنا
آخر تحديث:

بقلم:إبراهيم الزبيدي

لا جدال في أن أميركا الحامية والناصرة للكثير من قتلة الديمقراطية في خارجها، هي ديمقراطية حقيقية في داخلها، محافظة على ديمومة ديمقراطيتها وتعميقها وترسيخها، عاما بعد عام، ولا يختلف السياسيون والمواطنون في العمل على حمايتها من أيّ سوء.مناسبة هذا الكلام هو الحدث التاريخي المثير المتعلق برئيس الولايات المتحدة السابق، دونالد ترامب، وما رافقه، في أجهزة الإعلام العربية، من تفسيرات وتنبؤات الكثير منها ثأري عاطفي منبعه الكره الدفين لكل ما يأتي من أميركا، بخيره وشره، والقليل منها واقعي لا ينظر بعينٍ واحدة إلى ما يجري في أميركا هذه الأيام.فمن المعلقين والمحللين والمفسرين المتشفي المبشّرُ باشتعال حرب أهلية أميركية واقعة لا ريب فيها بين 70 مليونا من المتحمسين لترامب، وبين 72 مليونا من أنصار خصمه الديمقراطي جو بايدن.

ومنهم الطاعنُ في ديمقراطية أميركا والمنكر لوجودها قطعا، والمعتبر ما حدث لرئيس سابق دليلا على تدهور هذه الديمقراطية، وتسلل المزاجية إلى ساحة القضاء، ويعتبرون إصرار مدعي عام مانهاتن على إذلال الرئيس نوعا من استغلال سلطة القانون وتوظيفها لتحقيق مكاسب سياسية أو منفعية، أو لتصفية حسابات قديمة وانتقام سياسي.ما يحدث لترامب، بغض النظر عن نتائجه القانونية والقضائية والتنفيذية والانتخابية، شهادة صحية يمنحها مدعي عام مانهاتن للديمقراطية الأميركية، ليثبت، في واقعة نادرة في تاريخ أميركا، أنّ لا كبير أمام القانون ولا صغير

وشط الخيال كثيرا بفريق آخر من هؤلاء المعلقين فشبه الخصومة بين الجمهوريين والديمقراطيين بصراع الإطاريين والصدريين في العراق في 2021، ومعارك بشار الأسد مع أعدائه سنّة حلب وحماة ودير الزور، وحروب حسن نصرالله في لبنان وسوريا، وجهاد الإخوان المسلمين ضد جيش عبدالفتاح السيسي، وخلافات قيس سعيد مع النهضة وراشد الغنوشي.والقليل من هؤلاء المعلقين من اعتبر ما يحدث لترامب، بغض النظر عن نتائجه القانونية والقضائية والتنفيذية والانتخابية، شهادةً صحيةً يمنحها مدعي عام مانهاتن للديمقراطية الأميركية، ليثبت، في واقعة نادرة في تاريخ أميركا، أنّ لا كبير أمام القانون ولا صغير.

ورغم أن أحداً لا يستطيع تبرئة هذا المدعي العام من انحيازٍ خفيٍّ إلى الديمقراطيين، وكرهٍ مُبيّت لترامب والجمهوريين، إلا أن الواقعة برهنت على حصانة القضاء من التخويف والتحريف، ومن محاولات التركيع والترويع، وعجز القوى الحزبية عن إجباره على التراجع والاستسلام.فقد عارض بشدة تدخل النواب الجمهوريين في القضية، ورفض السماح لهم بإجراء تحقيق جنائي مع مكتبه في قضية ترامب، واعتبرها محاولة غير لائقة من الكونغرس لعرقلة القضاء.مع عدم إنكار أن أميركا، رغم ديمقراطيتها المحصنة الراسخة، لا تخلو من دولة عميقة تعمل خلف الأبواب السياسية والمالية المغلقة. ولكن هذه الدولة العميقة لا تستهين بالقانون، ولا تحتقر الدستور، بل تستغل ما فيهما من ثغرات، وتعمل من خلالها.

وتظل مسألةٌ مثيرةٌ من نوع إلقاء القبض على رئيس سابق، بالنسبة إلى المواطن الأميركي، سواء كان جمهوريا أو ديمقراطيا، عرضا مثيرا يستحق المتابعة. ولكن حياته العادية، وهمومه المالية والضرائبية، وأسعار العقار والبنزين والضمان الاجتماعي، أكبر وأهم من جميع حروب السياسة والسياسيين.شيء آخر. بالرغم من أن لأميركا عداواتٍ حاميةً مع دول عديدة في الخارج فلا انعكاسات لهذه العداوات على حياة المواطنين الوافدين من تلك الدول المعادية.والأميركي القادم من بلاد حاربت أميركا بالأمس، أو تحاربها اليوم، لا يجد من يغلق جمعياته ومؤسساته الثقافية والاجتماعية، ولا من يمنعه من دخول أماكن عبادته ومدارسه وأسواقه الشعبية الخاصة به، ولا من يشتمه ويُعيّره بالتبعية ويطالب بإسقاط جنسيته الأميركية وإعادته إلى حيث جاء.

فاليابانيون والفيتناميون والكوريون والفلسطينيون واليمنيون والعراقيون والكوبيون والفنزويليون، بمئات الآلاف، وربما بعشرات الملايين، معززون مكرمون، ومنهم ناجحون بارزون في مجالات المال والسياسة والاقتصاد والعلوم والفنون، بل منهم كثيرون أصبحوا نوابا وأعضاء مجلس شيوخ وقضاة ومدعين عامين وحكام ولايات ووزراء وسفراء، ولا أميركي واحد يسأل أحدا منهم عن أصله وفصله. فهذا محرّم بحكم القانون.والذي ينبغي الاعتراف به هنا أن الذي يحدث في أميركا هذه الأيام مع رئيس جمهورية سابق لم ولن يحدث لا في العراق، ولا في جمهورية بشار، ولا مملكة حزب الله في لبنان، ولا في إمبراطورية ولاية الفقيه في إيران، ولا في أي دولة عربية أو غير عربية في المنطقة، ملكية أو جمهورية، لا اليوم ولا غدا ولا بعد عمر طويل.

مع عدم إنكار أن أميركا، رغم ديمقراطيتها المحصنة الراسخة، لا تخلو من دولة عميقة تعمل خلف الأبواب السياسية والمالية المغلقة. ولكن هذه الدولة العميقة لا تستهين بالقانون، ولا تحتقر الدستورخذوا هذا مثلا. رئيس وزراء عراقي سابق مسؤول عن هدر 800 مليار دولار، وعن هزيمة جيوش الحكومة المدججة بأحدث الأسلحة أمام حفنة مارقة من الدواعش، دون قتال، وعن مذبحة سبايكر التي ذهب ضحيتها في ساعة واحدة أكثر من ألفي شاب بريء، وعن الآلاف من المغيبين والمهجرين والملاحقين بتهم الإرهاب بدوافع ثأرية شخصية وطائفية لا ريب فيها. ثم بالرغم من تسريباته الصوتية الأخيرة الشنيعة التي يدعو فيها إلى حمل السلاح ضد خصومه السياسيين، ويحتقر جيش الحكومة وقوى أمنها، لم يجرؤ قضاء مدحت المحمود، أمس، ولا قضاء فائق زيدان، اليوم، على لمس شعرة واحدة من رأسه. بل إنه كوفئ على دمويته وتخابره مع الأجنبي ليصبح صانعَ حكومات، ورئيسَ رؤساء، ووزيرَ وزراء، وصاحب ائتلاف شهير وقوي وغني اسمه ائتلاف دولة القانون.

شيء آخر. أعلنت وزارة العدل أن ضابط الشرطة العراقي، أحمد الكناني، المعترِف باغتيال الخبير الأمني هشام الهاشمي، في 6 يوليو/تموز عام 2020، لم يعد موجوداً في سجونها. فقد تم تهريبه، بعد أن تعمد القضاء تأجيل محاكمته عشر مرات.ورغم كل ذلك فعراق نوري المالكي، وقيس الخزعلي، وعبدالعزيز المحمدواي (أبو فدك)، وهادي العامري، ومقتدى الصدر، ومحمد الحلبوسي، يُطل على العالم في شخص رئيس حكومته الإطارية، محمد شياع السوداني، في قمة الدول الديمقراطية، بدعوة من الرئيس الأميركي (الديمقراطي)، ليتحدث عن التجربة الديمقراطية في العراق، وعن “إصرار الشعب العراقي على مواجهة كل التحديات التي تعترض هذه المَسيرة”.وليقول “في العراق تجارب طويلة من النضالات التي قدم فيها شعبنا التضحيات في سبيل أنْ ينال حريته، بعدما عزلته الدكتاتورية طوال سنواتٍ خلف قضبان القهر والقمع”، ولا يخاف ولا يستحي.

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *