زاوية النظر في الرواية المعاصرة

زاوية النظر في الرواية المعاصرة
آخر تحديث:

د.ثائر العذاري

“هو الذي خبر كل شيء فغني بذكره يا بلادي وهو الذي خبر جميع الأشياء وأفاد من عبرها وهو الحكيم العارف بكل شيء لقد أبصر الأسرار وعرف الخفايا المكتومة وجاء بأنباء الأيام مما قبل الطوفان” بهذه الأسطر بدأت ملحمة جلجامش الخالدة، وقد أحسن الأستاذ الراحل (طه باقر) حين جعل عنوان إحدى طبعات ترجمته للملحمة (هو الذي رأى)، فكأن العراقي القديم تنبه إلى أن العنصر الأهم في الحكي هو الرؤية وليس الإخبار. الرؤية هي نواة الحكي ومحوره الذي تتمحور حوله عناصره الأخرى، وليس الحكي سوى الإخبار بما رأى الراوي أو من يروي عنه الراوي. ولا أرى أن المصادفة هي التي جعلت كلمة رؤية وكلمة راو مشتركتين بالجذر الصرفي نفسه. في ملحمة جلجامش وفي كل الحكايات الشعبية يمارس الحكاء وظيفة إلهية، فهو يرى من رأى وما رأى ويخبر عنه، وهو يتلاعب بمشاعر المستمعين بقدرته على التلاعب بمصائر الشخصيات وتغييرها في كل مرة يعيد فيها الحكاية نفسها. قضت الرواية ما يناهز القرنين من أول عمرها وهي حبيسة الحكي التقليدي، فكانت أغلب الروايات تكتب بتقنية الراوي العليم أو كلي العلم كما يحلو لبعض الدارسين تسميته. وما يفعله الراوي هنا هو تقمص لدور الرب، فهو الذي يرى كل شيء والموجود في كل مكان، والقادر على الاطلاع على كل الأفئدة، ومعرفة ما في ضمائر كل الشخصيات وما جرى ويجري وسيجري. ومنذ أواخر القرن الثامن عشر حين نبه (هنري جيمس) إلى أن جمال الرواية يكمن في حصر الرؤية في شخصية واحدة، وتبعه في ذلك مفصلا ومنظرا تلميذه (بيرسي لوبوك)، نزل الراوي من عليائه وأصبحنا نرى بعين البشر لا بعين الآلهة، وتركت شخصيات الرواية للأقدار كما هو حال الناس في الحقيقة. يرى (ميشيل ريمون) وهو أحد من أرخوا تطور الرواية حتى أوائل القرن العشرين أنه “حسب تقنية وجهة النظر يتموضع الروائي بشكل ما في وعي إحدى الشخصيات، ليكشف الواقع الذي لا ينظر إليه حينئذ نظرة كلية، وإنما من زاوية معينة.” وهذا الرأي يؤدي إلى الوقوع في إشكالين فني وفكري. أما الفني فهو تصور الروائي متلبسا جسم إحدى شخصيات الرواية، فهل هذا يعني أن القارئ سيرى العالم بعيون تلك الشخصية لكن بوعي الروائي الذي استعار تلك العيون؟ وأما الفكري فهو القصد من عبارة وجهة النظر، فهل هي متعلقة بالوعي والفكر أم بالرؤية البصرية؟ في الكتابات النقدية الإنجليزية يستعمل التعبير (PointofView ) للتعبير عن الحالتين، فهو يدل أحيانا على الموقف الفكري وأحيانا أخرى على زاوية النظر، أو النقطة التي يرى منها الراوي العالم، ويتحدد المعنى المراد من السياق وحين يخشى من وقوع اللبس يستعمل النقاد المصطلح (Perspective) الذي تنحصر دلالته في الرؤية البصرية. غير أن التعبير العربي (وجهة النظر) منحصر في المعنى الأول بسبب استعماله هكذا في كل مجالات الكتابة وهذا ما يقود إلى خلط المفاهيم وعدم الاهتمام بالتمييز بين المعنيين. في (الجريمة والعقاب)، مثلا، يبدو كأن دوستويفسكي كان معنيا بالموقف الفكري، فعلى الرغم من أن الرواية كتبت بالتقنية التقليدية (الراوي العليم) فإن ثمة (وجهة نظر) واضحة، فقد كان (راسكولنيكوف) الشخص الوحيد في الرواية التي ينقل (الراوي) أفكاره كما يفكر هو تماما ليفهم القارئ فلسفة القتل من أجل العدل التي آمن بها، أما الرؤية البصرية فكانت للراوي العليم القادر على رؤية كل شيء وفي كل مكان، وهكذا يمكن أن نقول أن رواية (دوستويفسكي) مكتوبة من (وجهة نظر) بطلها (راسكولنيكوف) ولكن من (زاوية نظر) الراوي العليم. وهكذا ولكي نفهم بنية رواية نقرؤها لا مناص من البحث عن إجابتين لسؤالين يبدوان مفتاحا للفهم؛ أما الأول فهو من الذي يرى؟ وهنا نقصد الرؤية البصرية التي تنقل شكل الأمكنة والشخصيات والأشياء، وأما الثاني فهو من الذي يتحدث؟ والقصد هنا من الذي يفسر الأحداث ويتخذ الموقف الفكري والوجودي بإزائها. في إجابة السؤال الثاني ستتكشف واحدة من أهم جماليات الرواية الحديثة، إذ ستنشأ ثنائية قد تقود إلى الكثير من اللبس بين موقف المؤلف وموقف الراوي من العالم. ففي (الجريمة والعقاب) أيضا، يدفع (دوستويفسكي) القارئ إلى التعاطف مع (راسكولنيكوف) وربما إعطائه الحق في فلسفة القتل من أجل العدل، ولا نعلم طبعا وليس لدينا سبيل للعلم القاطع بأن موقف المؤلف كان ذاته موقف بطله الذي هو في النهاية ليس سوى قاتل سايكوتريكي.

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *