ألم نخسر حرب غزة بعد؟ ولكن تلك الحرب لم تكن حربنا. ذلك ما يقوله البعض. لم تنته الحرب بعد. هل كانت حرب محترفين أم حرب هواة؟ لقد عذبنا الكثيرون بأمنياتهم الصادقة. ولكن كل ما حدث على الأرض يؤكد أن غزة وقعت مرة أخرى تحت الاحتلال. حاولت حركة حماس أن تفعل شيئا ولكن محاولتها هذه المرة لم تكن موفقة. يفكر فلسطينيو حماس بنجاتهم كما لو أنها نصر لفلسطين. ذلك ليس صحيحا ولا حقيقيا. لقد خرج صدام حسين من حرب الكويت حيا ولكن العراق كان ميتا. معادلة كانت قضية فلسطين قد دفعت ثمنها. كل الحروب التي خسرها العرب وهبت إسرائيل أراضي جديدة، كانت بالنسبة إلى الصهاينة أشبه بالحلم.
لا معنى لسؤال من نوع “ألم نخسر الحرب مرة أخرى؟”، ننأى بأنفسنا عن الخسارة فنقول “إنها ليست حربنا” وفي أعماقنا يقول الصوت “ولكن القتلى أهلنا”. مَن وضعهم هدفا لقتل باركته دول، وصل بأكبرها أن اعتبرته غير مخالف للمعايير الدولية. هناك دائما ما يُقال وما لا يُقال. وللأسف فإن الجزء الأكبر من الحقيقة يدخل بالنسبة إلينا في منطقة الـ“ما لا يُقال”. لو قلنا إن حماس ارتكبت خطأ فادحا حين أقدمت على مغامرة السابع من أكتوبر، لضربتنا اتهامات شنيعة تنال من كل ما نؤمن به من ثوابت وطنية وقومية. يفضل الكثيرون أن يصمتوا مخافة سوء الفهم. ولكن سوء الفهم الأكبر يقع حين نمضي عميانا وراء الكذبة التي تسعى إلى أن تحل محل الحقيقة وتلبس ثوبها.
لقد ساءت أحوالنا. منذ قيام إسرائيل وهي تسوء مع الوقت. صحيح أننا لم نكف عن تأليف الهتافات والأناشيد. صحيح أن كل شيء في حياتنا قد ارتبط بـ“فلسطين”. وصحيح أيضا أننا كنا نقف عند خط الأفق نفسه الذي يقف عنده الفلسطينيون. غير أن ما حصدناه على مستوى الواقع هو أكبر مما توهمنا أننا قمنا بزراعته. لقد ضاعت فلسطين جزءا بعد آخر حتى انتهت مقاطعة السلطة الفلسطينية مجموعة من الجزر التي يمكن أن تُحكم عن طريق الإنترنت. في الطريق ضاعت دول، كان العرب قد وضعوا رأسمالهم النضالي كله فيها. كان من الممكن أن نستمر في أكذوبة “لا صوت يعلو على صوت المعركة” لولا أن دولا مثل سوريا والعراق ولبنان واليمن انتقلت إلى فضاء افتراضي.
“ألم نتعب من الأكاذيب؟”، يُراد لنا أن نستمر في الكذب على أنفسنا. يُقال “لقد خسرنا معركة ولم نخسر الحرب”، ترى متى تكون لنا الجرأة لنعترف أمام أنفسنا وهو الأهم بأننا خسرنا الحرب. في الفضاء اللغوي ما معنى معركة وما معنى حرب؟ هناك لعب على اللغة صرنا ضحيته في الوقت الذي حاولنا فيه أن نستعمله لرفع المعنويات الهابطة. من السخرية أن يقع اللوم على أعدائنا وهم يمارسون شتى صنوف الهمجية من أجل إلحاق الأذى بنا. لا أعتقد أن إسرائيل بغض النظر عمّن يحكمها لا تلجأ إلى إبادة أكبر عدد من الفلسطينيين إذا ما أتيحت لها الفرصة. إسرائيل مثل إيران دولة حرب. لا تملك حلا سوى الحرب. أما إذا فرض الآخر عليها حربا فإنها تقيم عرسا للدم.
تريد حركة حماس أن تخرج من المأزق الذي صنعته بغض النظر عما تعرض له أهل غزة من عمليات إبادة مزجت البشر بالحجر. يفهم بنيامين نتنياهو بخبثه أن حماس تفكر في انتصار معنوي. ولأنه يفكر بالطريقة نفسها فإن كل شيء سيمضي في طريقه، بمعنى أن حرب الإبادة ستستمر. ولكن حماس لن تُهزم حتى لو احتلت إسرائيل غزة كلها. لقد توقف الزمن عند يوم السابع من أكتوبر. انتصرت حماس يومها في حدث غير مسبوق أما ما نتج عن ذلك الحدث فيمكن التغافل عنه. يمكننا أن نضيف كذبة جديدة إلى سلسلة أكاذيبنا التي وهبتنا خلودا من نوع خاص.مكنتنا حرب غزة من رؤية الحقيقة مرة أخرى، بعد أن كنا قد رأينا في حرب تموز على الأراضي اللبنانية عام 2006 ما لم نكن نتوقعه بعد ما عشناه من أجواء احتفالية بتحرير الجنوب اللبناني عام 2000. مسرحيتان إيرانيتان سُحق فيهما العقل العربي الذي كانت الهزيمة من نصيبه. ما حدث وما يحدث الآن كان درسا لما يمكن أن يقع حين تكون الميليشيات هي سيدة القرار في الحرب. وهي ميليشيات تعلن الحرب غير أنها لا تملك القدرة على إنهائها.