الترجمة والتأثير الثقافي

الترجمة والتأثير الثقافي
آخر تحديث:

 حسن ناظم
تبقى الترجمةُ، بمعنى تداول للخطاب بين لغات مختلفة، مواجهةً مفتوحة على احتمالات متشعّبة تتعلق ببناء المجتمع، ولذلك فهذه المواجهة لقاءٌ مشوب بالتوجّس من خطاب غريب يُرتآى عادةً فحصُ ممكناتِ الصراع الذي قد يثيرُه. هذا الفحصُ تمارسُه مؤسسات وأفراد يعنون باللغة المنقول إليها الخطابُ الغريب. إنني أستخدم كلمة “الفحص” لأن الترجمة عُدَّتْ، من منظور معين، شكلاً من أشكال “الفيروس” يستهدف المجتمعات والثقافات عبر وسائل مختلفة لنشر الأفكار والبصائر والحساسيات والمنظورات الجديدة، وغالباً ما تتوجّس السلطات السياسية والدينية خيفةً من السرعة التي يُصاب بها المواطنون والأتباع بالأفكار الجديدة من خلال وسيط الترجمة. 
بين الأمانة والخيانة

يكتنفُ هذه المواجهةَ بين اللغات، من خلال الترجمة، نزوعٌ تقليدي إلى الريبة بحكم طبيعة تعريف الترجمة كمواجهة وليست كـ”ضيافة لغوية”، بحسب تسمية بول ريكور، يتمتع فيها المترجم بسعادة خاصة. لكنها في الواقع تنقل حقلَ الترجمة إلى بُعْدِ البحث في طبيعة الثقافات المختلفة وتأثير الترجمة فيها. ولذا تظهرُ هنا عنوةً القضيةُ المشهورة عن الترجمة بين الأمانة والخيانة. وأعتقد أن ليست الأمانةُ في النقل هي الأمانةَ الحقّة والالتزامَ الحقّ، فالترجمة كـ”خيانة” للأصل هي التزامٌ من نوع ما، التزام بقواعد الثقافة المستقبِلة وأعرافها وتقاليدها. وهذا النوع من الالتزام بوصفه “خيانة”، أو الخيانة بوصفها التزاماً، هو العتبة الذي تُشرع فيها الترجمةُ إمكاناتِ الحوار مع النصوص الغريبة. فنقلُ الأعمال إلى الثقافات القوية ذات التاريخ العريق يفرضُ هذا النمطَ من الخيانة عبر التزام بتقاليد الثقافة المتسهدفة. إذ تؤسس الترجمة أعرافاً جديدة في الثقافات والآداب، كما كانت عاملاً حاسماً في تحوّلات ثقافية وأدبية كبيرة.
رباعيات عمر الخيام

حين كانت الثقافة العربية من أقوى ثقافات العالم، مارست الأثر نفسه على الثقافات الأجنبية كالثقافة الفارسية والتركية. فالترجمة بهذا الاعتبار عنصر في التغيّر الذي يحدث للثقافات الأضعف أمام الثقافات الأقوى. ولنتذكّر، على سبيل المثال، هنا الطريقةَ التي عالجت بها الثقافةُ الغربية قضيةَ ترجمة الأدب الإسلامي من خلال ترجمة إدوارد فتزجيرالد لرباعيات عمر الخيّام المنشورة في العام 1859. إذ يجد بعض الباحثين صعوبة في تسميتها ترجمة، تماماً كما نجد صعوبة في تسمية ما أنتجه مصطفى لطفي المنفلوطي ترجمة. فمثلما طوّع المنفلوطي روايات الفرنسيين إلى الإجلال الذي يكنّه للعربية وتراثها وتقاليدها ليكون في سلسلة ممتدة بدأها أسلافُه في تأسيس تقاليد النثر العربي، كلّ ذلك مصحوب بنظرة ملؤها الإعجاب بأوروبا، طوّع فتزجيرالد رباعيات عمر الخيّام إلى التقاليد الغربية انطلاقاً من نظرة استعلاء متعجرفة أتاحت له ألاّ يشعر بالرهبة أمام الأدب الإسلامي مثلما يشعر أمام الأدب الكلاسيكي الإغريقي أو اللاتيني.
إن الترجمةَ لا تضع اللغةَ فقط على محكّ التغيّر، ولا تضع النصَّ في تحوّلاته بين اللغات على محكّ البحث عن تماميته وكماله، بل تضع أيضاً الثقافةَ والتقاليدَ على محكّ التغيرات. فعلي سبيل المثال، قد تفعل الترجمة “الرديئة” فعلاً حسناً وهو حال ترجمة متّى بن يونس القنّائي كتاب أرسطو “فنّ الشعر” من السريانية إلى العربية. فحين ترجم التراجيديا والكوميديا إلى المديح والهجاء على التوالي، لعله جنّب العربَ الوقوعَ في ورطة تقليد الأدب اليوناني برأي بعضهم، فظلوا عاكفين على فنونهم الأدبية المعروفة، ولم يُدخلوا الفنون الأدبية اليونانية إلى عالم الأدب العربي. على النقيض من ذلك، قد تفعل هذ الترجمة “الرديئة” فعلاً رديئاً، فترجمة متّى بن يونس حرمت العربَ من استقطاب الفنون اليونانية العليا مثل التراجيديا والكوميديا وإدماجها في فنونهم الأخرى برأي بعضهم. إن الترجمة في كلا التأويلين كانت بلا ريب صلةً من نوع ما، صلة كانت متطلّبة بفعل الإطار الإسلامي الحضاري الذي دمج ثقافاتٍ وشعوباً في عالم العرب واللغة العربية وفنونها وآدابها. وقد كان كلّ من العرب ولغتهم قبل الإسلام في انفصال معين عن التجربة الحضارية العالمية المتداولة آنذاك بين الفرس والروم.
فايروسات الترجمة

واليوم، لابدّ من استشراف وضع الترجمة في العالم العربي والتفكير مليّاً من جديد في ظلّ التغيرات الراهنة التي عصفتْ بالبنى السياسية والاجتماعية والاقتصادية لبلدان عربية كانت منتجاً فاعلاً في عالم الترجمة إلى العربية. لقد انهارت بنى نظام قديم كانت له قيمُه الثقافية ومشروعاتُه المنجزة على أساس هذه القيم، وتقوم اليوم بنى جديدة لها قيمُها الثقافية المختلفة كلياً، وهي تضع وستضع عاجلاً أو آجلاً قيمَها تلك موضع التطبيق، ومن بين تطبيقاتها الشديدة الاحتمال سياسة الترجمة. وسيكون في ظنّي أول أولويات سياسة الترجمة هذه بناء نظام مناعيّ قويّ ضد فايروسات الترجمة، ولن تتمكّن الهويات الموجودة في العالم العربي من أن تتفاعل من أجل ظهور هويات جديدة. فمفهوم الحراسة قد يشيع من جديد، حراسة الهوية، ومفهوم السلامة قد يتعزّز من جديد، سلامة اللغة العربية، وعبر هذين المفهوميْن يتسلّل سوء فهم محتمل يمطّ كلّ مفهوم لكي ينسجم مع متطلبات مفترضة تكمن في الأيديولوجيات والعقائد والنُّظُم الأخلاقية. ولا يشمل هذا الوضعُ التدابيرَ المتخذةَ لحراسة الهوية الراهنة وصيانتها، فثمة جانب مهمّ آخر في عملية الترجمة، وهو ترجمة أعمالنا العربية إلى لغة الآخر، التي يبدو أنها أمر يجب أن نضطلع به نحن مادام الإقبال على بضاعتنا الفكرية والأدبية أمراً غير رائج في ثقافة الآخر. ومن هنا فإن دواعي التواصل من طرفنا بالآخر أكثر من دواعي تواصله معنا معرفياً. وحتى التسعينيات من القرن الماضي، ولا أحسب أن الأمر قد تغيّر الآن، اشتكى كاتب غربي له باع طويل في دراسات الترجمة من ندرة وجود نصوص الأدب الإسلامي، وليس العربي فقط، في أوروبا والأميركيتين، مقارنةً بما هو متوفّر من نصوص الأدب الصيني والياباني. فقد يكون للغة ما ملايين من المتكلمين، ويكون لها تراث أدبي ضخم، كالأدب العربي، لكنها إذا كانت محرومة من المترجمين ومن فرص نقلها إلى اللغات الأخرى، فإن التصورات حول أدبيتها ستفتقر إلى الجدية وستكون محرومة من التطور. وليس من قبيل التشاؤم الخشية على مصير النافذة التي نتمتّع بها الآن، خشية من تحوّلها إلى قوقعة.
مشروع «كلمة»

لا يعني هذا عدم وجود مؤشرات إيجابية في هذه الطريق الطويلة، ومن بينها مثلاً بشارةُ أن نرى المفكر الكبير هشام جعيط على رأس مؤسسة “بيت الحكمة” في تونس. ثمة أيضاً أمل وتعويل على بضعة مشاريع كبيرة ومبادرات لمؤسسات حكومية ذات خطط مدروسة مثل مشروع “كلمة” الرائد في أبو ظبي، ومشروع المنظمة العربية للترجمة، زيادة على جهود فردية هنا وهناك، قد لا تفي بأن تمثّل مدينةٌ ما من مدن الثقافة العربية اليوم مدينةَ عبورٍ للثقافات عبر الترجمة، كما كان عليه حال بغداد القرن التاسع الميلادي، في أيام حُنين بن إسحاق، وإسطنبول القرن السابع عشر أيام حاجي خليفة المعروف بكاتب جلبي، ولكنها بالتأكيد توسّع من النافذة، وربما تفكّر في فتح باب مُشرع دائماً على الآخر.

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *