الحداثة التالية والتحديث

الحداثة التالية والتحديث
آخر تحديث:

د. رسول محمد رسول

“ ما بعد الحداثة ليست مفهوماً بل حالة سردية”

وليام جيمسون

كان المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي (1889 – 1975) استخدم مصطلح (Ultra-modern) للدلالة على مُعطيات مصطلح الذي يٌعرف بما بعد الحداثة، ولم يستخدم المصطلح الشائع (Post Modern) أو مصطلح (Postmodernity) محاولة منه لإضفاء ذائقته الإنجليزية، على أن استخدامه لهذا المصطلح البديل يمكن أن نترجمه – من جانبنا – إلى تعبير “الحداثة المتطرّفة”، لكنّنا نخفف لهجتنا العربية فنترجمه إلى “الحداثة الفائقة”(1). 

الحداثة التالية

وأكد توينبي خلال السنوات 1945 – 1954 بأن مرحلة الحداثة المتطرّفة أو الفائقة أو ما بعد الحداثيّة هي حقبة تاريخية تبدأ في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، وتتميز بصراعٍ استمر تقريباً من نهاية القرن التاسع عشر حتى العقود اللاحقة في القرن العشرين، فقال: “لقد شهد العصر الذي تلى الحداثة في التاريخ الغربي تحطُّم إيقاع الحرب والسلام في الغرب الحديث من خلال قدوم حرب أتت في أعقاب حرب أخرى”، وما تلى الحداثة أتي في نهاية عملية التقدّم الطويلة التي انتقلت خلالها البشرية من العصور المظلمة إلى العصور الوسطى فالعصر 

الحديث(2). 

وهذا يعني أن الحداثة – وبحسب توينبي – هي “الحقبة التي شهدت ظهور النزعة الإنسانية التي تفهم العالم من حيث الاعتراف بأن الناس هم أساس المعرفة والعمل، وأنهم ذوو قيمة، ولهم كرامة، وإرادة حرة، وأن الحداثة هي عصر التحرّر التدريجي من الخرافة بوصف – هذا التحرر التدريجي – تنويراً، وقد سعى هذا التنوير إلى توفير الأسس العلمية والرشيدة للتجربة الإنسانية، ولذلك كانت الحداثة ذروة التقدّم والتنمية” (نفسه: ص 58 وما بعدها)، أما الحداثة المتطرّفة أو الفائقة فهي “حقبة الانحدار التي تحدث فيها الحروب الدامية عندما يتم التخلي عن المشاريع الإنسانية التنويرية في ظل الصراعات القومية التي شابت جزء كبيراً من النصف الأول في القرن العشرين” (نفسه: ص 58). ما يعني أن هالة (Aura) الحداثة الفائقة هي “ظاهرة ذات أسلوب سياسي بصورة لا مفر منه”(3) – كما تقول ليندا هتشيون – بل حتى إن الألماني هاينر موللر قال في سنة 1979: “ليس بمقدوري أنْ أُبعد السياسة عن ما بعد الحداثية”(4)، والحروب هي لعبة السياسة دائما. 

من ناحيتي، وجدت في اهتمام توينبي بمسألة الحداثة وما بعدها مخرجاً لي لكون هذا المؤرخ هو المُمسك بخيط ما هو تاريخاني، والمتضلِّع بالإنسان بوصفه جوهر الوجود وهو الذي تابع أنطولوجيات الإنسان في التاريخ، توينبي الذي يستقرئ مُنعطفات الحياة ومتغيراتها الدائرة في التاريخ وما يجري في يوميات هذا 

التاريخ. 

كما أنني أشاطر توينبي متابعته لدور الاستعماريات التي وظفتها الحداثة الفائقة في ظلمها الجذري للشعوب والأمم وهتك كرامة الإنسان؛ فالعراق عاش ظلام القوى الاستعمارية التي مرّت عليه عبر قرون كالبويهيين والسلاجقة ثم سقط بيد المغول سنة 1258 ميلادية ليدخل في استعمار مركّب كالسيطرة الصفوية والمملوكية والعثمانية. لكن هذا العراق استأثر، تالياً، باهتمام الاستعمار الغربي ابتداء منذ افتتاح قناة السويس في سنة 1869؛ بل لا أتردّد وأقول: إنّا والقول للعراق، ومنذ ذلك التاريخ، أصبحنا قبلة المستعمِر البريطاني وقد بدأ بالفعل يخترق العراق الهزيل بغية السيطرة عليه، وفعلَ ذلك كلياً في مطالع القرن العشرين عندما هبّ لاحتلال العراق وإنشاء المملكة العراقية سنة 1921، ومن ثم نيلها الاستقلال سنة 1932.

تحديث عثماني

لقد تنبه العثامنة إلى رغبات البريطانيين الخبيثة باحتلال العراق قبل افتتاح قناة السويس في سنة 1869، ولذلك شرع العثمانيين بعدد من النظم التحديثية الأولية (التحديث Modernization) واستخدامها في العراق، لا سيما في عهد علي رضا باشا (1831 – 1841)، وعهد محمد نجيب باشا (1842 – 1849)، وعهد محمد نامق باشا (1850/ 1851) وتالياً للسنوات (1861 – 1867)، وعهد مدحت باشا (1869 – 1872)، فحتى بداية ستينيات القرن التاسع عشر كانت خطوط المواصلات الدولية مع الموانئ العراقية قد تحدّثت وانعكست تطوّراتها تلك على حركة التجارة والعمل والتعليم ما بعد الملائي المحدّث – فعلى سبيل المثال أُنشئت مدرسة صنائع الأيتام سنة 1869 على أيام مدحت باشا، والمدرسة الحميدية في سنة 1889، ومدرسة إناث رشيدية مكتبي في السنة نفسها – وكذلك التواصل المجتمعي وغيرها من قطاعات الحياة في العراق العثماني الذي ظهرت فيه أساليب “رسملة العلاقات الإنتاجية بين سنتي 1869 وسنة 1914”، كما قال الباحث الراحل محمد الجمال (ت 2014)، والذي أضاف بأن “الفائض الزراعي العراقي كان يخضع لسيطرة رأس المال العالمي، وقد حفز هذا “قوى التغيير في داخل تلك البيئة الزراعية – التجارية من خلال خلق الظروف المنطقية لنشوء وتطوّر علاقة الملكيّة الخاصّة الموجّه نحو السوق، أي: خلق اللبنة الأولى لهذا الإنتاج الرأسمالي بستمها المحلية”(5). 

وفي ضوء ذلك، سال لعاب الإنجليز ليشحذوا أنيابهم ويأتوا بترسانة أسلحتهم الحديثة مستعمِرين نحو العراق، ويحققوا أهدافهم رغم التحديات التي جابهوها من طرف الشعب العراقي، فانتهت سرديّة العثامنة لتحل محلها سردية المستعمِر البريطاني، ليشرع – هذا المستعمِر – بتأسيس دولة عراقية حرص على وصفها بـ “الحديثة”، ودخل العراق في تحقّقات تحديثية (Actualizations) مضاعفة استمرّت في المراحل الملكية؛ إذ كانت الطاقة الكهربائية تدار في سنة 1931 من طرف شركة إنجليزية تعتمد استحصال الجباية بواسطة الدفع بالبطاقة، وكانت بريطانيا العظمى مدينة للعراق الملكي في سنة 1940 نحو 40 مليون جنيه إسترليني بسبب تصدير القطن عالي الجودة، وكذلك في مراحل الجمهوريات العسكرية المتعاقبة سار التحديث على نحو متفاوت حتى سقوط آخر أنظمتها في نيسان/ أبريل 2003. علماً أن ديون العراق الحالية – لغاية تموز/ يوليو 2019 – بلغت 133 مليار و700 مليون دولار.(6).

1. يواصل بعض الباحثين العرب ترجمة استخدام توينبي لمصطلح (Ultra-modern) إلى (ما بعد الحداثيّة) = (Postmodernity). أنظر: (سيمون مالباس: ما بعد الحداثة، ص 6، ترجمة: د. باسل المسالمة، دار التكوين، دمشق، 2012). بينما كان الدكتور محمد شيّا قد ترجم عنوان كتاب ديفيد هارفي (The Condition of Postmodernity)، لا سيما مصطلح (Postmodernity) الوارد فيه إلى «ما بعد الحداثة». انظر الترجمة العربية لعنوان كتاب هارفي في الأسفل.  

2 . سيمون مالباس: ما بعد الحداثة، ص 58، ترجمة: د. باسل المسالمة، دار التكوين، دمشق، 2012.

3. ليندا هتشيون: سياسة ما بعد الحداثية، ترجمة: د. حيدر حاج إسماعيل، ص 67، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، 2009.

4 .  ليندا هتشيون: سياسة ما بعد الحداثية، ترجمة: د. حيدر حاج إسماعيل، ص 65، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، 2009. قال مللر هذا الكلام في كتابه (Reflections on Post-Modernism). وتقول ليندا هتشيون: «في حين لا يملك ما بعد الحداثي نظرية قوة فعّالة تمكّن من الدخول في العمل السياسي، فإنها تعمل عملاً أكيداً على تحويل أساسها الأيديولوجي إلى مشهد للنقد الخاص بتجريد ما هو طبيعي من طبيعته»، انظر: المرجع السابق، ص 69.

5. محمد جبار الجمال: إشكالية الهوية والتحديث في تأريخ العراق المعاصر، تحرير: حيدر التميمي، ص 29، بيت الحكمة، بغداد 2019.

6. انظر: «تقرير اللجنة المالية البرلمانية افشى بهذه المعلومة النائب محمود الكعبي في تأريخ 3 تموز/ يوليو 2019، السومرية الإلكترونية.

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *