العبيدي وتقديس التراث العربي

العبيدي وتقديس التراث العربي
آخر تحديث:

 بغداد/شبكة اخبار العراق- ركزت تأثيرات الصورة الفنية لعامر العبيدي جل اهتمامها باتجاه فن قابل لتوظيف الأسس التراثية وبإطارها المجدد وقدم لنا منذ أكثر من أربعين عاما فنا ملتزما بطابع له خصوصيته من حيث التراكيب البنائية والهيكلية التي تنتهي نحو تكوينات محملة بخيول جامحة أو منبطحة وظل توجهه ماضيا في حدود الاهتمام بالبيئة ومرتكزاتها التراثية.

وهذا النمط من التكوين الجمالي بكل ما تحمل العلاماتية في اللوحة، يتيح لنا أن نعي أسس مكونات أعماله وهي تستند لمخيلة قابعة في تقديس التراث العربي وتقدم الملفوظ والخيالي منه بصيغ فنية لا تخلف وراءها إلا سيلا من المرموزات وبتراكيب مختلفة تعمل على إعطاء المخيلة الحق بأن تنقل مجساتها لأن توازي الذاكرة التي قدم منها عامر العبيدي المحمل بإرث ومنهج وخطاب الستينيين كواحد منهم، عرف كيف يجد له خطا ممنهجا في الرسم ومؤثرا وكله خطاب تأملي لحياة عربية لا تلقف من الغرب أيا من بهرجة مادياتها وحسياتها، بل استند لموروثه وحوله إلى بنائيات عميقة الدلالة ومتينة الصلة بوثوقيات الطقوس الاجتماعية والمعتقدات التي يمكن أن تتنامى في شأن تاريخي محلي.

تحيلنا مركزية أعماله التي تحمل على السطح التصويري عديدا من الخيول والفرسان لحركتها وإغوائها ومحمولها الدلالي وهي ليست أشكالا في بنية جسدية أو ممارسة ترتفع لتعلو من عمقها بل هي في الأساس ممكنات تعبيرية تتساوى فيها الأدلة مع المحمول التراثي وهذه الآليات التي تعتمد في رسومات العبيدي تغمرنا بمتحفيتها وليس بأشكالها وما أود قوله في المتحفية عمقها الدلالي المستند لتاريخ المكان ومؤثراته البالغة. مقابل هذه المساحة التعبيرية هناك نطاق الأسلوبية الذي يربكنا من حيث تعدد الأشكال وتقلب أمزجة الخيول واشتغالها بنائيا مع كل بواعثها، فبنية التصوير في تلك الأعمال ومسوغات نسيجها مع منظومتها الشعورية والبصرية، تظهر أدلة لنزعة تأثيرية ووصفية لتشكل في نهاية مطافها هوية خاصة دلالة تلك الخيول تعطي سمة تخاطب تراثي يوثق صلته الواقعية وهذه الفرادة التي حملتها لوحات عامر العبيدي منذ الستينيات ليومنا هذا تشع بقوة رؤيتها وبواعث واسطتها المحملة بشفرات تتلاءم والمرحلة التي تختزنها الذاكرة وتمدها بالبنائية كنوز مخيلته.

في كتابه «علم الإشارة» يذهب بيير جيرو إلى أننا يجب ألا نخلط بين الانتباه الثقافي والإيصال الوجداني، ويؤكد أن كلمة حصان تتعارض مع كلمة أنثى الخيل، وما دامت الحالة كذلك فالدال لا يعكس التعارض وبالنتيجة هناك تناسب، حسب رؤية بيير جيرو، يكمن في تمفصل الدوال والمدلولات، ولكن إذا كان لبيير أن يعتمد منهجا سيميائيا ويذكر بالخيل وبأنثاه في التوظيف الدلالي، فكيف نقرأ سيميائيا لوحات عامر العبيدي التي أساسها نزعة تزاوج بين التعبير والتجريد في تحويل بنائي، إذن هذه الأشكال من الفرسان وقيادتهم للخيول أعتقد أنها بلاغة من التصوير الذي يميل لبعد واحد يتأسس على خطاب تراثي له طريقته المثلى فهو يصرح بقيم مثالية تلامس نزعتنا الإنسانية. وهذا التشخيص الغريب لا يعطي البطولة مفهوما غيبيا، بل يمجد تاريخ إنسانية منطقة معينة غالبا ما تحمل سمات الصحراء والبيئة العربية.

إذن نحن أمام ملحمة وقراءة واقعية بصيغ تعبيرية تجريدية.. لا تأخذنا كل تلك الخيول إلى تعاظم مسحتها الشكلية، فحسب بل تجعلنا تحت ضغط الإحساس بالمعيارية من التصميم والإمعان بوحداتها الصورية والتجانس، ففي مثل هكذا أعمال تحمل فذاذة وعطاء بصريا ملزمة أن تتخذ من طابعها الطرازي أساسا للمزاوجة بين التراث البيئي ومنظومة الحداثة، وهذه المزاوجة ظلت مرابطة في أكثر أعمال العبيدي فهو في بنائيته واختلاط حدسه بالتراث أعار العمل الفني كشوفات لم تتكرر عند غيره وهذا ما جعلنا نحتفي بكل لوحة له لأنه يعي كيف يوازي بين نزعة قابلة للتوصيف وأشكال تلجأ للغور عميقا في الأصول التي حملها مع جيله الستيني.

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *