العهود الثلاثة للحضارة

العهود الثلاثة للحضارة
آخر تحديث:

ياسين النصيِّر

لا تختلف الحضارة الرافدينية القديمة عن بقية الحضارات، من أنها هي أيضا بثلاثة عهود مفصلية تتنوع عن الحضارات الأخرى بتباينات واختلافات موضعية، لكنها لم تخرج على السياق العام لمفهوم العهود الحضارية الثلاثة في العالم. هذه العهود هي» العهد الإلهي، العهد البطولي، والعهد الإنساني». ومن السهولة أن نشير إليها بنقاط تعميمية، لتأكيد وجودها، لنجد أن هذا التسلسل إن اختلت مساراته حدثت الاضطرابات، فعندما كان العهد الإلهي مهيمنا كانت الحروب تفرض ارادات القوة باسم الآلهة، حيث كانت الأبعاد الإنسانية متنحية وليست من الأولويات، ولدينا أمثلة لا تعد ولا تحصى من كل الحضارات الإنسانية كلها من أن مرحلة الألوهية؛ ممثلة بالقوى الاجتماعية والاقتصادية والروحية التي تمثل الآلهة على الأرض أخضعت الجغرافيا الطبيعة والجغرافيا الروحية للإنسان لإرادتها، ففرضت الحروب، وطرق العيش، وطبيعة الاستغلال، واستثمار موارد البلدان المحتلة لصالحها، واخضاع شعوبها لعقائد القوى المنتصرة، ولنا في الحروب قبل وبعد الميلاد أمثلة كثيرة على ذلك.

العهد الإلهي في هذا العهد تكون الثقافة رديفا واقعيا لمفهوم الحضور الإلهي القوي في حياة الناس، وكان التمثيل لها ثقافيا، عبر شكل سردي شعري مركزي هو الأسطورة، إلى جوار الأناشيد المثيولوجية المشفوعة بالغيبيات عن دور للآلهة في الأرض، كانت الأسطورة وملاحم الطقوس والعبادات والأعياد هي النموذج الأكثر ايهاما في مفهوم المشاركة بين ارادة الهيمنة وإرادة الآلهة، وساد الاعتقاد بأن ثمة قوى مبهمة كائنة خارج الأرض تتحكم بالبشر وتفرض عليهم طرق وجودهم، وحياتهم وتكفير من يخالف هذا المسار أو الوقوف ضده، فكانت الاسطورة والمثيولوجيات بمنزلة التعاليم التي تفرض طرق العيش والتفكير. وعندما تقدمت الإنسانية وتطورت مفاهيم العقل، أصبح دور الإنسان الفاعل مؤثرا، فتم اكتشاف مجالات علمية بسيطة في الطبيعة وفي الفهم تسهم في تثبيت مركزية الأنا والعقل، واصبح العلم ميدانا لامتحان الإرادة وطريقة للتفاهيم، ومجالا لضرب التماثل، هنا، في هذا الحقبة من عهد البطولة، خاضت الشعوب تحت ارادات ايديولوجية قومية ودينية، حروبا في مختلف بقاع الأرض وباشكال بطولية مختلفة من أجل الهيمنة، دون أن تلغي مضامين العهد الإلهي ثقافيا. وقد أسهمت الطبقات الاجتماعية الرأسمالية في تغذية نزعة الحروب الايديولوجية والقومية، لأن مصالحها ترتبط بتوفير المواد الخام للصناعات: هتلر وستالين، وموسليني، وغيرهم، بحيث أصبحوا المثال البطولي المعبر والمجسد للحضارة الصناعية، وفي الوقت نفسه بدأ التصنيع ينمو ويتنوع لياخذ الرأسمال دورا مؤثرا في كل مفاصل الحياة العالمية، لتتعمق في الحروب الحديثة كجزء من الهيمنة الاقتصادية والسياسية والتي نحصد اثارها إلى اليوم.

العهد البطولي في ثقافة العهد البطولي المتسعة، كانت الأشكال الثقافية هي الأخرى متعددة، في مقدمتها المسرح والرواية، الرسم، والملحمة والتراجيدا، دون ان تلغى الاسطورة والسرديات الدينية والمثيولوجية، التي تصور حياة الناس وحياة القادة والزعماء ووكلاء الأديان، وإنما قرأتها بما يغني ويسند توجهات التراجيديا والدرما والرواية والقصائد الطويلة، واصبح التفكير بقوى الغيبيات كالجنة والنار والمطهر والغفران، وغيرها مادة للرواية وللدراسة وللقصيدة الدرامية وللمسرح، وللرسم. وما زال الإنسان خاضعا بالرغم من نهوضه إلى هيمنة القوى الدينية ولكن مع حضور الآلهة والصناعة الحربية والنزعة القومية والشوفينية وثقافة الاستغلال وممارسات القوى الاقتصادية والاجتماعية، وبروز دور النقد كقوة تبادلية بين الشعوب. كل هذا رافقته الرواية واللوحة الفنية والموسيقى، وابرزته كجزء من ثقافة وفكر وعقل بطولة المحتلين لشعوب لما تزل في عهد البداوة والتخلف والصياغات البدائية لمفهوم العيش والوجود. العهد الإنساني في العهد الإنساني، الذي يبدو أنه العهد الذي نعيشه ونمارس وجودنا وحضورنا فيه، اتسعت مفاهيم البطولة الإنسانية وأصبحت حقوقا وتعليما وارادة وقوى مجتمعية، ونضالات طبقية، واجتماعية، وانتخابات، وبرلمان، وسلطة تبادلية.. مع نزعات دينية وقومية مختلفة، وإذ يستع المدى النضالي للعهد الإنساني عبر العولمة والحداثة وما بعد الحداثة لهيمنة النقد والاقتصاد والسياسة، يبدأ العهد الإنساني يششت المعاني والمفاهيم للعهدين السابقين ليدمجها في منظومة اعلامية وثقافية معولمة. فأصبح من الصعوبة الاحاطة بتفاصيل المركزيات الكبرى، فما يقال في دوائر القرار الدولية المهيمنة لا يقال في دوائر البلدان الضعيفة، هذه القوى هي جزء من الحضارة الحديثة التي تعددت طرقها الاستغلالية للإنسان وللطبيعة وللأديان لفرض مشروعية الحروب، ليصبح بامكانها أن تكون الاهية وقومية وبطولية تتمسك بالقوى الدينية وتعاليمها إذا اقتضت الضرورة، كما تصبح بطولية خارقة عبر تأكيد ثقافة السوبرمان، وإنسانية عبر حقوق الإنسان والديمقراطية والحرية والتنظيم، ليصبح بعد هذا بامكان هذه القوى ان تفتت وتفكك الطبقات الاجتماعية الكبرى، وأن تجعل الذات المفردة مفكرة و صاحبة المشاريع، ومن لا يستطيع مواكبة هذا التحول الهائل في ممارسة الحياة، سيبقى تابعا خانعا لإرادة الاخر. خاصة في منطقة الشرق الأوسط، وفي العين منها العراق.

ممارسة المركزية ضمن هذا البناء الفكري والعقلي نجد الاشكال الثقافية في العهد الإنساني تتعدد وتمارس ثقافة ما بعد الحداثة التفتيتية لكل البنى المركزية، فالرواية تتحول إلى فصول مستقلة، والمسرحية إلى لوحات، واللوحة التشكيلية إلى خطوط وكتل متفرقة، والموسيقى إلى زمنية متقاطعة، وتتعدد الشخصيات المحورية في النص بدلا من الشخصية البطولية المركزية، ويصبح الأسلوب كولاجا، ويغيب النوع ليهيمن النص، وتضيع أو تمحى مفاهيم الطبقات والقوى الفاعلة، وتصبح القصائد لمحات ذاتية ومواقف قصية الأبعاد، وتصبح القصة بدلا من الرواية هي النموذج لقصرها ومواكبة السرعة، واللوحة الفنية الاستعراضية الساخرة بدلا من مسرحية الفصول، والشخصية البطلة من عامة الشعب وهوامش المجتمع بدلا من الشخصية التاريخية والقومية. وتظهر بدلا عنها الشخصية الكارزمية الكائنة في خفايا الاسرار الشعبية، وتدمج القوى الغيبية بالصناعة، وتظهر ثقافة اللعبة، وتعمم ثقافة الاسلحة عبر ألعاب الطفولة، وتشيع ثقافيا الحروب الموضعية الصغيرة بين البلدان، وتخلق بيئة شعبية للإرهاب والرفض، ويصبح العهد الإنساني بقوى قامعة حين منهجت القوى الرأسمالية آليات العهدين السابقين للحضارة الإنسانية لصالحها، لتصبح المطالبة بالحقوق تتم عبر من يمتلك المال والسلطة الدينية، لا عبر وسائل النضال، كل هذا أدى إلى ضياع منهجي لهوية البلدان والإنسان، بعد أن ضيعت العولمة حدود البلدان عبر التجارة الحرة والأسواق والصواريخ العابرة للقارات، واعتماد ثقافة الإعلان العاري باستخدام جسد المرأة معرضا لدغدغة مشاعر الأجيال الشابة.

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *