القاصّ والقَصَّخون وخدعة القصّ

القاصّ والقَصَّخون وخدعة القصّ
آخر تحديث:

د. ثائرالعذاري

في النصف الأول من القرن الماضي كانت مقاهي بغداد الكبيرة تقيم سهرات ليلية يحييها شخص يسمونه (القصخون)، يجلس على منبر يرتفع كثيرا عن مستوى كراسي الزبائن، ويشرع بسرد حكاية مشوقة من حكايات البطولة والحماس مثل (الزير سالم) و(سيف بن ذي يزن) أو من حكايات العشق كحكاية (مجنون ليلى)، وعلى الرغم من أن معظم الحاضرين كانوا قد استمعوا إلى الحكاية ويعرفون تفاصيلها فإن القصخون كان قادرا على شد أسماع وأبصار جمهوره والتأثير فيهم كما لو كانوا يسمعون حكايته للمرة الأولى، ولا أشك في أن الرجال عندما كانوا يعودون إلى بيوتهم منتشين بما سمعوا، يحكون لزوجاتهم ما سمعوه من القصخون فكانوا يتعجبون من برودة رد فعلهن وعدم انفعالهن كما انفعلوا هم بين يدي صاحبهم فيتهموهن بالبلادة، والحقيقة أنهم هم أنفسهم لا يعلمون أن ما أثر فيهم هو طريقة الأداء لا موضوعه.موهبة شفاهية لم يكن القصخون معولا على الأحداث في التحكم بمزاج جمهوره فهو يعرف سلفا أنهم يعرفونها بالتفصيل، بل كان يعتمد على مواهبه الشفاهية وربما المسرحية، يتحكم بصوته صعودا وهبوطا وشدة ولينا، يصور ضربة السيف بحركة يده وحالة الشوق والهيام بعينيه وتعابير وجهه، وهكذا يتولد جمال الحكاية من منظومة من العلامات والإشارات التي لا يمكن عدها جزءا من اللغة المنطوقة. وفي القصة، أيضا، يخطئ من يظن أن حدثا طريفا أو نهاية مدهشة يمكن أن يتحولا إلى أساس لقصة ناجحة، فالقاص مثل القصخون يهتم بكيفية القص لا مضمونه. وثمة نظام سيميائي هو الذي يفعل فعله في القارئ. إن حدثا واحدا يمكن أن يكون مادة لعشرات القصص الناجحة التي ستتغاير جوهريا. ومرة أخرى أعود إلى التذكير بتجربة الراحل موسى كريدي والقاصة ميسلون هادي التي أراها تجربة فريدة لم تنل حظها من الدرس الكافي.

موضوع واحد وقصتان في العام 1984 اتفق القاصان على أن يكتب كل منهما على حدة قصة بعد أن اتفقا على تفاصيل الموضوع، فتاة جامعية تخرج من كليتها عائدة إلى بيتها، ولكنها تتعرض في سيارة الأجرة إلى مضايقة من الشاب الذي يجلس جوارها، وحين يبلغ بها الضيق مداه وتهم بفعل شيء ما تكتشف أن الشاب ميت. حدث فريد ونهاية مدهشة، نشرا القصتين في مجلة (ألف باء) في صفحتين متجاورتين ليجد القارئ نفسه بإزاء قصتين مختلفتين تمام الاختلاف، فبينما بنت قصة ميسلون حالة درامية من الصراع الداخلي في فكر الفتاة بين ضيقها في البداية وشعورها بالذنب في النهاية، اتخذ كريدي من الحدث مدخلا للولوج إلى قضية موت روح الإنسان في زمن المدنية والانسحاق بقيم العصر.

العلامات لم تكن الثيمة التي بناها كل من القاصين معتمدة على الحدث ولا النهاية ولا على الدلالات المباشرة للألفاظ والجمل، بل تولد التغاير من تلك العلامات التي بنيت في ظلال اللغة ودلالاتها، وهذا بالضبط ما قصدته بخدعة القص. خدعة القص هي ما يعوض عن مواهب القصخون الشفاهية والمسرحية، أن يستطيع القاص التسلل خفية إلى وعي القارئ والتلاعب بمزاجه من غير أن يتنبه إلى ما حفزه للمزاج الجديد. ذلك النظام العلامي ليس شيفرة ثابتة متفقا عليها، فلكل قصة نظام تشفير علامي خاص بها، فغرفة شاحبة الإضاءة يدخلها لص، تولد شعورا مختلفا عن غرفة شاحبة الإضاءة تضم حبيبين في موقف عاطفي. هذا النظام العلامي يشبه تماما الموسيقى التصويرية في مشهد سينمائي، حيث تستطيع الموسيقى تغيير الانطباع تغييرا تاما كلما استبدلت.

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *