الكتابة بعد منتصف الليل

الكتابة بعد منتصف الليل
آخر تحديث:

ياسين طه حافظ

قد يكون خطأ قديماً سببه الكدح، دمار النفس من اجل الخبز. من أجله نسفح قوى الجسد ونحيّد القلب بقسوة أبٍ مهووس. ذلك لنضمن قوت غدٍ وما يجب لنعيش. هو جني القمح من يباس الحياة والقميص من العري الذي فتك، يفتك بأجيال، بالبشرية فوق الأرض.هذا نصْف ما أبعد الكون عنا وألزَمنا الإقامة في الأرض يقظين ننضح حتى غياب الشمس او بعدها بوجع. هنا يكون العالم لسوانا ونحن الاقنان في السِباخ! هكذا نتسلل واحداً واحداً حتى إذا جاوزنا منتصف الليل، أقفرت الشوارع وأطفِئَت الكثير من مصابيح البيوت وظل عالم ما بعد منتصف الليل فارغاً الا من صفير هوامٍ تائه. تلك الساعة نحس بفقرنا عميقاً ونحن نعلم، ان بعيداً عنا الآن موائدَ وموسيقى ولقاءات فرح وناسها سيظلون نائمين غداً حتى الظهر .. إصبع الساعة، سهمها الفضي، لم يلبث على الثانية عشرة، تجاوزها كأن بارتعاش. أنا في سكون البيت وحدي يقِظٌ وقد صمتَ حولي كل شيء. لم يبقَ إلا بين هذه اللحظة وتلك خشخشةُ أوراق أتمَمْتُ كتابتها، أقلُّبها لأسحب أوراقاً جديدة أو لأصوِّب أخطاء. الحديقة هامدة والجيران لا صوت ولا ضياء. وغرفتي وحدها مضاءة مثل حجرة خيميائي أو صانع أسحار. هوس يعتريني، أكتبُ بحماسةً مثل من وجد ثروةً، يعجِّل في لمّها قبل أن يكشفهُ الضوء. حين أرفع رأسي، أرَ كأسي الفارغ يقف ببلاهة لا يدري ما يفعل وماذا أفعلُ في هذه الساعات الأخيرة من الليل. لكن في عمق الليل، وحين الصمت أوسع مدى، تكتمل شخصيتي وتحضر كبريائي بتُقى أو بزهد. أحس بلذة التمكّن والهيمنة التي لم آلفها وأراني حكيماً نأى عن هذرٍ ورداءات. هكذا أهب نفسي لغسقٍ أصطنعه أنا وسط العالم. شريط ضوء أنا وحدي فيه. هو عالم الكتابة الذي لا يدري به الناس. أولئك الناس الذين يعرفون النهار ساعات حرق الخلايا وإذلال الروح وطرد الرغبة الطارئة لنعيش يومنا المقبل. هم الان راقدون من تعب وانا لي ليل الكتابة يجتذبني كاملاً. أنا الوحيد الواضح فيه. في الليل، بعد منتصفه، حين يكون ليلاً، نصحب انفسَنا. وإذ يطمئن الماضي من غياب الحراسات، تأتي الذكرى ويأتي صوت الحبيبة ونحن في غمرة فيض الكلمات، ونحن كمن سينال شيئاً في السكون الغامض المديد. بين سطور الكتابة في الليل، بين لمعان الكلمات، تحضر انتظارات كانت بعيدة ويحضر عناق خاطف خائف وتحضر مشاكسة وقحة لكن توصل للسرير لا للباب.. كم نحن مع انفسنا سعداء! لا اريد ثبات ما أعلم. أغلِّفهُ بالظن، لا أريد أفارقه في الانتباه.  لا أريد البعد عن فرحي، لا أريد افارق عالمي أنا! بدءُ رعشات، كم مضى من الليل؟ أخشى أخشى أن تستعيد الوحشةُ حضورها ويغرق ذلك العالم الجميل. لا ادري، لاأدري أين اختفى الحب مني ومنها … دعها، تحوّلات عواطفنا، دع الفعل المزدوج للاهواء، دعْ ضعفنا واستجاباتنا. ليست ساعةً لنثأر ولا ساعة لنؤكد الامتياز. هي ساعة لانقاذ الروح من الدوي المقبل. دعنا نقرِّب اللحظات الباقية من قلوبنا لتلمس اعراقنا الخائفة العَطِشة. فما يزال الليل يتنفس بعمق وشيء مضيء فينا يمد صِلاته بالنجوم. وهذه السماء أظلمّت زرقتها منذ امد. البيوت الان راكدة والشوارع القريبة والدروب مقفرة يحتلها السكون. ما أزال حاضراً وسط الكون الكبير. روحي تتوقد مثل كوكب كأنْ لم أرتوِ وكأن فاتني لقاء … كيف التمَّ العالمُ ونسيَّ باباً مفتوحةً لأجد لي ممراً الى عالمي، الى حيث الروح مستحمة من الفوضى، متفتحة للحياة البعيدة التي نحلم بها ؟ فرصتي الليلة لأرفع غطاء ذاكرتي  الذهبي واترك مدَّخراتها تتلامع متحررة و لتغيب من بَعدُ تاركةً لمعاناتها وموسيقاها لتنقلها هذه الورقات البيض، بعضاً من شاراتٍ على انتصار الروح … حان بدء الانتقال الى اليابسة. يابسةٌ هي الالواح بين السفينة والجرف ونحن مثل مسافرين حقائبنا بأيدينا. لا ندري أين سنحط وكيف ستكون الحياة. النهارات لا تسرّ ولكنها تحتفظ بما يمنح حياتك وهجاً ذهبياً وتمشي كما تطير. هل أنا أهيئ نفسي للحقائق المقبلة، أكمل عدّتي القديمة لمواجهة النهار؟ يبقى الليل ملكي، ويبقى بعد منتصف الليل للكتابة ولصناعة الحلم. أنظر بمحبة لورقتي الأخيرة، ثم آخذ كل الاوراق بين يديَّ، بين عينيَّ، ومثل ضوء حلو من روحي يرف على السطور: ماذا كتبت؟ من تذكرت؟ اترك هذا للصباح، لأنقّي الكتابة مما علق بها، مما أوهمتني به الذاكرة أو دسَّهُ التعب. فأنا مثل ذلك المزارع الذي رأيته آخر الشتاء، ينظف الحقل لبدء موسم جديد. انتهى الليل! أقفُ على مشارف الصباح الحجرية وحقيقتي ساخنة ولغتي أعلى صوتاً وقد غادرتْ مُشعَّةُ العينين التي كانت تواصل ايقاد الشعلة وتدير افراحي في الليل. صباحاً طيباً وليكن الخير في الطريق، لكني أدعوكم للكتابة بعد منتصف الليل…

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *