اليوم أنهت بغداد عام نكبتها الخامس عشر

اليوم أنهت بغداد عام نكبتها الخامس عشر
آخر تحديث:

بقلم:فاروق يوسف

ما من مدينة في التاريخ لهثت وراء قاتليها مثلما فعلت بغداد.ولدت في بغداد. لا تبعد محلة الصنم التي ولدت فيها عن ساحة الطيران وهي مركز بغداد سوى عشرات الأمتار. كانت هناك حديقة الملك غازي التي سميت في ما بعد بـ“حديقة الأمة”. تقع محلة الصنم بين كنيسة الأرمن ومقبرتهم. وكانت هناك سينما النصر الصيفي التي كنا نتطلع على أفلامها ونحن جالسون في شرفة البيت.في ذلك العصر المخملي لم يكن هناك ذكر للفقر. كان الجميع فقراء. أتذكر حريق أورزدي باك، وهو الـ“مول” الأول من نوعه في الشرق الأوسط. يومها وهبني إطفائي حزمة أقلام للرسم لم تحترق. هل حدث ذلك الحريق في العصر الجمهوري؟ قبلها كان العراق ملكيا.كانت الجمهورية وعدا للفقراء بدأ بمجزرة. من يومها لم تتوقف المجازر التي صارت تُلهمُ الفقراء مفردات جديدة صارت جزءا من لغتهم الوطنية التي يتصاعد منها الدخان. لقد بدأ يومها زمن المسيرات، وصارت حشود الفقراء الهاربين إلى بغداد من فقرهم جماهير تهتف بأصوات عالية للمعسكر المنتصر رافعة صور المنتصرين وشعاراتهم المموسقة.

لقد تحولت تلك الجماهير التي تم تلفيقها من الخواء التعبيري إلى مادة للدعاية الحزبية، ولم يكن المشروع الوطني إلا خلفية لمسرح تُدار على خشبته عمليات تصفية الآخر المختلف، ومصادرة حرية وحق الاختلاف وتدمير الجانب الوطني البنّاء الذي ينطوي عليه التعدد والتنوع في الآراء والأفكار.لقد شق العراق طريقه إلى التهلكة برؤى حالميه من الحزبيين الذين استعملوا الفقراء أدوات للترويج عن حقهم في القتل وممارسة العنف الثوري. كانت الجماهير كذبة اختبأ وراءها العقائديون القتلة.في ظل تلك الكذبة كانت بغداد تستقبل قاتلا وتودع قتيلا من غير أن تملك وقتا تلتقط فيه أنفاسها. ما من مدينة في التاريخ لهثت وراء قاتليها مثلما فعلت بغداد.

ولقد يسرت ثروة العراق للحزبيين أن يحولوا عاصمة الرشيد إلى واحدة من أقبح مدن العالم. أتذكر أنني في شبابي كنت أمر تحت نصب الحربة وهو عمل فني عملاق فأرى على جانبيه لافتات قماش تحمل شعارات الاتحاد العام لنقابات العمال. لقد تسلقت الجماهير النصب الذي استلهم حريتها لتلوثه بمفردات حزبية رثة. ألم يكن لافتا أن العراقيين يعبرون عن فرحهم بالبكاء، وكان مزاجهم في الغرام كئيبا؟لقد تم تطبيع الحزن والشقاء والتعاسة والحرمان والفقدان واليأس والفقر في بلد لو وزعت ثروته على مواطنيه بعدالة، لكانت حصة كل واحد منهم قناطير مقنطرة من الذهب.فهل يُعقل أن ينتهي علماء ومفكرو ومهندسو وفنانو وكتاب وأطباء ذلك البلد الثري مشردين على أرصفة العالم، تشفق عليهم الدول بقبولهم لاجئين؟

هذا الواقع الذي عرف الأميركان كيف يترجمونه من خلال لغة رقمية إلى خيار وحيد ينتهي من خلاله العراق وطنا محتملا، لتبدأ مرحلة العراق الفاشل الذي لا أمل لشفائه من فساده. في 9 أبريل 2003 سلم المناضلون العقائديون الفقراء للأميركان، وذهبوا إلى منتجعات خيالهم ليغسلوا ضمائرهم بمياه الوطنية المعدنية، لا يخطر في بالهم أن البلد الهش الذي استسلمت جماهيره للاحتلال بطريقة مذلة ومخزية هو صنيعتهم الرثة.من المؤكد أن تلك الجماهير التي ضيعت سنوات طويلة من عمرها في دهاليز الحروب الحزبية لن تتمكن من تقدير حجم الكارثة التي ضربتها. لا يحق لأحد أن يلوم العراقيين على عماهم. لقد كانت بغداد مدينة منتهكة قبل أن تدنس ترابها الدبابات الأميركية.حين سلم الأميركان الحكم لعقائديين من نوع جديد، فإن ذلك لم يقع بسبب ولاء أولئك العقائديين للولايات المتحدة. لقد كانوا إيرانيين عقيدة وولاء. غير أن الولايات المتحدة اختارتهم لأنهم يكملون الطريق التي شيدها العقائديون السابقون وصولا إلى تدمير العراق.بغداد دخلت عام نكبتها السادس عشر من غير أن تظهر في الأفق أي علامة تشير إلى أن خلاصها قريب.

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *