تشيخوف يتألق في بستان الكرز

تشيخوف يتألق في بستان الكرز
آخر تحديث:

 بغداد/شبكة أخبار العراق- في اختياره مسرحية «بستان الكرز» (مسرح المدينة – بيروت) للكاتب الروسي الكبير أنطون تشيخوف بغية لبننتها ومنحها هوية لبنانية تاريخية (القرن التاسع عشر)، تمكّن المخرج كارلوس شاهين، المقيم بين لبنان وفرنسا، أن يقترح صيغة جديدة لهذه المسرحية التي تعدّ من عيون الأعمال الراسخة في الريبرتوار العالمي. ولا تتميز الصيغة التي اقترحها في لبننتها فقط وقد تولتها نصاً ولغة الممثلة الكبيرة رندا أسمر، بل في فضائها الإخراجي وجمالياتها المتقشفة والبعيدة عن الإبهار البصري كما حصل في صيغ عالمية عدة،
وكذلك في ابتداع «خريطة» جميلة لحركة الممثلين، الفردية والجماعية. وقد تكمن قوة هذه الصيغة وفرادتها في المشهدية المتكافئة التي ابتدعها المخرج بين السينوغرافيا الفقيرة وأداء الممثلين وفي اللعبة التي وفقت بين نزعة تشيخوف «الكوميدية» (كما وصف تشيخوف مسرحيته)، والتوجه التراجيدي الذي أصر عليه المخرج الروسي الرائد قسطنطين ستانيسلافسكي وهو كان رافق ولادة نص المسرحية، وكان أول من أخرجها في موسكو في الرابع عشر من كانون الثاني (يناير) 1904 قبيل رحيل تشيكوف في الرابع عشر من تموز (يوليو) من العام نفسه.
سعى شاهين إذاً إلى استخلاص صيغة تراجي- كوميدية للعرض الذي نجحت رندا أسمر (صاحبة التجربة المهمة في الترجمة المسرحية واللبننة خصوصاً) في إعادة كتابته في العامية اللبنانية محافظة بأمانة شديدة على بنية النص ولغته وروحه الملتبسة. شاء شاهين مسرحيته شبه فقيرة، عناصر ديكور قليلة وأساسية، لا بذخ ولا ترف حتى على المستوى البصري الذي تتيحه المسرحية نفسها عبر التشكيل والإضاءة (بستان الكرز، الفجر، الليل، السماء، القطار…). اكتفى المخرج بما قل من الأثاث لا سيما الكنبة والخزانة القديمة، لكنه نجح أيما نجاح في استخدام فكرة السجاد (فكرة بيتربروكية في الأساس) الذي وجد أصلاً ليغطي الأرض فإذا به يستحيل في المسرحية إلى جدران أو «جدارية» وسطية ذات دورين متوازيين جمالي وسينوغرافي. وعبر جدار السجاد خلق المخرج أكثر من فضاء على الخشبة، فضاء داخلي ما وراء السجاد المرفوع ومنه تتفرع فضاءات أخرى في العمق ثم شمالاً ويميناً. وكلها فضاءات عملانية وحقيقية نصف ظاهرة ونصف خفية، وفيها تقوم أفعال وتقع حوادث ومن أبرزها طاولة لعب الورق المتخيلة (عوض البليارد) والحفلة الموسيقية الراقصة التي اختصرها المخرج بإطلالة فنية حركية ودينامية، عمادها شخصية الراقصة ولاعبة السحر البهلواني (أدتها ببراعة وحذاقة الممثلة سينتيا كرم). ونجح المخرج أيضاً في توظيف السجاد في خاتمة المسرحية عندما جعل منه ركاماً «سجادياً» بعدما هجرت العائلة النبيلة (المشايخ) الدار العريقة ونسيت الخادم العجوز والوفي كل الوفاء، فلم يجد سوى ركام السجاد سريراً فيرقد عليه راثياً نفسه. إنها فكرة رائعة، سينوغرافياً وإخراجياً، وزاد من وهجها أداء الممثل القدير حسام صباح وهو أبدع فعلاً في شخصية العجوز فارس الذي لم يعرف من هذه الحياة سوى هذه العائلة، عائلة المشايخ.
في اختياره السينوغرافيا الفقيرة والمتوهمة في أحيان (صوت القطار، مشهد البستان، مشهد أشجار الكرز، بعض الأصوات…) كان كارلوس شاهين مطمئناً إلى الممثلين الذين اختارهم وفي مقدمتهم الممثلة الكبيرة رندا أسمر التي تعد اليوم واحدة من سيدات المسرح اللبناني والعربي الراهن وأحد أبرز وجوه الجيل الذي أعقب جيل المؤسسين، وكذلك موريس معلوف، المسرحي الرائد الذي لم تحرجه الإطلالة في دور مختصر مع ممثلين بعضهم من تلامذته. وكعادته لوّن معلوف شخصية الشيخ سمعان بأدائه الجميل والنابض والحي وبنى كاراكتيراً موفقاً لهذا الإقطاعي الانحطاطي (ديكادن) ولكن النبيل الذي لا هم له سوى المال، يستدينه ثم يفيه لمن أدانوه. ومن الممثلين أيضاً حسام صباح القدير الذي بدا محترفاً في أداء أدوار العجائز على رغم عدم تقدمه في العمر، علي سعد البارع في أداء دور سليم أحد الأثرياء الجدد الصاعدين على أنقاض المشيخة الإقطاعية التي تشهد حالاً من الانهيار، ودوره ليس بالسهل فهو يعيش صراعاً بين كونه فلاحاً ابن فلاح وبين كونه رجلاً محدث الثروة ولكن عاجزاً عن أن يكون نبيلاً في المعنى الطبعي أو السلوكي. أما كارول الحاج التي تؤدي دور ابنة العائلة المتبناة فكانت إطلالتها جميلة، وهي أساساً صاحبة هذه الإطلالة في كل أدوارها الجيدة والعادية. لكنها هنا فقدت مفتاح الدخول إلى عمق شخصية فيولات (فاريا في الأصل)، الابنة بالتبني، ذات الجرح الداخلي.
أما الشخصية الرئيسة الشيخة ليلى (رانيفسكايا لوبوف) فتؤديها الممثلة الكبيرة رندا أسمر وهي كانت فعلاً في حجم هذه الشخصية المحورية التي تدور من حولها الوقائع والشخصيات. وأول ما تُمدح به أسمر أنها كانت تشيخوفية بامتياز، والمقصود أنها أدت شخصيتها عن طريق المستويين الخارجي او التعبيري والداخلي الذي يسمى المستوى الثاني أو ما وراء النص. إنها ليلى الشيخة التي تمكن تسميتها رندا، الشخصية الغنية بأحاسيسها المتضاربة: أم وعشيقة، عفوية وجدية، متعلقة بالماضي والعائلة والبستان، لكنّ قلبها في الآن نفسه هو في باريس حيث يقيم عشيقها الذي بدأ يعيش مرحلة انهياره مثل العائلة تماماً ومثل ليلى التي ما برحت تقاوم وتأمل ولكن على طريقتها. طيبة القلب، سخية وقد يكون سخاؤها هو الذي أدى إلى الإفلاس وإلى رهن البيت والبستان، طيبة القلب حتى لتبدو غير منتبهة تماماً للعبة التي تجري من وراء ظهرها. تحب وتعلن خيانتها لزوجها الراحل وتعترف بأخطائها جهاراً وبوضوح وتهرب من أي شعور بالذنب. وكلما وصلتها برقية من عشيقها المقيم في باريس تمزقها وكأنها غير مبالية، لكنها في الحقيقة ما زالت متعلقة به على رغم خيانته إياها لمدّة. وهذا التردد تعيشه رندا- ليلى أيضاً حيال «بستان الكرز» الذي تريد بيعه لتسديد ديون العائلة وتأبى بيعه في الوقت نفسه تبعاً لما يمثل في عينيها من ذكريات جميلة هي ذكريات العائلة والماضي.

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *