المتنبي وقصائد الحب

المتنبي وقصائد الحب
آخر تحديث:

لميعة عباس عمارة
إذا كان أبو نؤاس ـ وهو سابق للمتنبي ـ قد ثار على هذه المقدمة واستبدل المرأة بالخمرة، فذاك لا يلائم خلـق المتنبي، لأنه لا يشرب الخمرة، وقد شربها مرةً مكرهاً تحت ضغط المجاملة. فالغزل عند المتنبي مقدمات، والمدح هو كل شعره، ولو أنني اكتفيت بهذا التحليل لظلمـت نفسي وأعلنت جهلي، ولكنني كلما تعمقت في قراءة المتنبي أدركت أنه استخدم المدح ولم يتقيد به. قصائد مدح المتنبي هي كل شعره، وليس شعر المتنبي كله مدحاً. فالمدح مناسبة لبيان براعته في كل الأغراض، ومعرض لبلاغته لا أكثر. وقد قرأنا آراء لبعض الأدباء، أو مدعي الأدب والسياسة هي أن شعر المتنبي لا يستحق التقدير، إذ كله مديح وتزلف ابتغاء الحصول على المال… إلى غير ذلك من الآراء الساذجة التي لا نناقشها الآن .

قصائد المتنبي في المدح تعقد في ذهني مقارنة بينها وبين روايات أوسكار وايلد، فأوسكار وايلد يختار هيكلاً مشوقاً لقصصه تستطيع أن تختصر أحداثه بسطور، ولكن كل ما في الرواية يلخص آراء أوسكار وايلد وسخريته من المجتمع الإنكليزي، ونظرته للناس والأشياء، كل هذا يبرزه أثناء الحوار على لسان شخوص الرواية.
المتنبي يمدح. وهذا هيكل القصيدة المختصر، وهذا المدح هو الوعاء الذي يسكب فيه المتنبي آراءه وفلسفته وثقافته وقدرته اللغوية، وبالاختصار كل عبقريته، وعلى القارئ أن يتلمس مكامن الجوهر والحكمة، فكل القصائد هي المتنبي ولم يكن للممدوح دور فيها.
وكيف نحاكم المتنبي الآن لأنه كان يمدح الوجهاء والأمراء في عصر وسيلة الشاعر الوحيدة فيه إلى استخدام الموهبة هي المديح، ومنه تنطلق الشهرة ومنه يجيء المال؟
لا يجوز أن نحكم الآن على المتنبي بحجة أن عمر بن أبي ربيعة لم يمدح.. وشعراء آخرون يعدون على الأصابع لم يمدحوا… هؤلاء الشعراء هم الشذوذ في قاعدة ذاك الزمان. ولكل عصر قواعده وضروراته، وفيه الأغنياء وأصحاب النفوذ يطلبون المدح والشاعر إن لم يُسمع يموت مختنقاً من الصمت.
العربي يحب أن يُمدح، والرجل أكثر رغبة من المرأة في هذا المدح وإن ظنَّ العكس… وكل كتب الشعر والتاريخ تؤيد ما أقول، ومادة المدح سهلة تختصر بكلمتين… الشجاعة والكرم، وكل من مدحهم المتنبي تقريباً لا يخرجون عن هاتين الصفتين، فأي واحد منهم هو: أشجع الناس وأكرم الناس، حتى لم يترك معنى لاسم التفضيل، ولا واحد منهم يعترض على المتنبي ليقول له: أما قلت عن غيري أنه أشجع الخلق وأكرم الناس؟ لم يعترض أحد الممدوحين وكأنهم كلهم يعرفون أن القضية متفق عليها… وأن ما يقوله المتنبي فيهم يستحق الجوائز السنية. هذا نظام العصر وسنته، بل هو نظام كل عصر، يتملق الناس أفراداً في موضع السلطة والقوة، كلٌّ بطريقته، إلا أنَّ من يُقبِّل يد الحاكم لا تكتب عليه خطيئة، كما تكتب على الشاعر.
من مقدمات القصائد هذه المقدمات الغزلية المهيأة أحياناً قبل التوجه لممدوح بعينه، هي أسس جاهزة تنتظر البناء عليها، أحياناً يتخلص المتنبي منها بما يسمونه (حسن التخلص) وهو الانتقال من الغزل والنسيب إلى المدح، وأحياناً يقفز المتنبي بلا جسر إلى المدح… لا فرق، فالعرب تحب أن تفتح شهيتها بالحب، وينجذبون للنسيب، وكلهم عشاق، يسكنهم العشق، وليس شرطاً أن يكون المحبوب موجوداً، فأحياناً كثيرة هو عشق للعشق، وحب لا يعرف لمن، لذلك بدأ الشعراء ومنهم المتنبي بالحب، ووصف المرأة التي هي أجمل ما خلق الله.
من مقدمات قصائد المدح نلملم رأي المتنبي بالحب وبالمرأة، وأحياناً نُحس وهجاً من العاطفة، ولا غرو فالشاعر من أرق الناس مشاعرا، ومن كل ما قرأت من هذه الغزليات طلعت بأن المتنبي لم يحب، وساعدني المتنبي نفسه لتقدير ذلك… وبيَّن بصراحة موقفه من الحب، والاعتراف سيد الأدلة. يقول أفلاطون: «الحب حركة النفس الفارغة»، والمتنبي معجب بفلسفة اليونان. يقول المتنبي نفسُه عن نفسه:
وما العشقُ إلا غُرَّةٌ وطماعةٌ يُعرِّضُ قلبٌ نفسَه فيصابُ
وله:
تروق بني الدنيا عجائبها، ولي فؤاد ببيض الهند لا بيضها مغرى
وقوله:
ما دمتَ من أربِ الحسانِ فإنما رَوقُ الشباب عليك ظلٌّ زائلُ
وقوله:
مما أضرَّ بأهل العشـــق أنهم هووا، وما عرفوا الدنيا ولا فطنوا
تفتى عيونُهم دمعاً وأنفسُهم في إثرِ كلً قبيحٍ وجهُهُ حَسنُ
وقوله:
لولا العلى لم تَجُنب بي ما أجوب بها وجناءُ حرفٌ ولا جرداءُ قيدود
وكان أطيبَ من سيفي معانقة أشباهُ رونقه الغيدُ الأماليدُ
لم يتركِ الدهرُ من قلبي لا كبدي شيئاً تتيّمُهُ عَينٌ ولا جيد
أصخرةٌ أنا؟ مالي لا تُحرِّكُني هذي المدام ولا هذي الأغاريد
هذا هو عقل المتنبي الطموح للمجد والغِنَى والشهرة والخلود، ومعرفته حقيقة العبقرية التي وهبها الله، واستخدامه لهذه العبقرية إلى أقصى حدودها، كل ذلك يجعله جاداً في تنفيذ مقاصده، لا يلهيه شراب أو حب يستهلك عقله بالتأوه والحسرة وأحلام اليقظة، عارفاً مترفعاً على زمانه وعلى مَن في زمانه، يشق طريقه في السحاب إلى المستقبل اللامحدود، وبهذا تفوّق. كان بإمكانه أن يكون نديماً يجوّد السمرَ في مجالس الخاصة ولم يفعل، وكان بإمكانه أن يكون عاشقاً يتفوق على كل العاشقين بالغزل ولم يفعل.
لا تقل لي إنه كان قبيح الشكل، فأنا لا أريد أن أضع نظرية خاطئة أجعل فيها من قبح المتنبي أساساً لتعامل المرأة معه، أو إعراضها عنه، هذه النظرية خطأ كبير، لأن مغريات المرأة في الرجل تعتمد على القوة، وقوة الرجل في شخصيته لا في شكله، قوته في المال، في الزعامة السياسية، في العبقرية وفي الذكاء الواضح في العلماء والشعراء، والشعر من أكثر المغريات جذباً للمرأة، أجمل النساء يلتففن حول بشار بن برد، وأجمل النساء ضعيفة أمام قصيدة غزل من شاعر كبير، إن لم تحبه فإنها تتجاوب معه بقدر افتخارها بالقصيدة. لو أراد المتنبي أن يكون معشوقاً لما أعوزته الوسيلة على قبحه، وشدة اقتصاده، وخشونة الكبرياء فيه، وللكبرياء ملمس خشن.

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *