توالت الازمات والايام الداميات للتأكيد للعالم أجمع أن النموذج الجديد لعراق جديد لاينتج الا خراباً وتفتيتا .. فبعد فرق الموت والقاعدة وداعش والمليشيات المدعومة ايرانياً وانتشار الفساد الاداري والمالي وفقدان مستنزف للثروات القومية ؛ تتوالد الازمات لتنتج أزمة جديدة أعتقد أنها لن تمر بسلام إن لم يرعوي اطرافها من شركاء الامس ” الاكراد والاحزاب الشيعية ” أعداء اليوم ويدفعوا التوتر الى لغة الحوار ، والازمة الجديدة هي الادارة المشتركة للمناطق المتنازع عليها بين الاقليم والحكومة الاتحادية في العراق والاصرار على ” تشكيل حكومة انقاذ في اقليم كردستان ” .
فبعد خطوة الاستفتاء لأستقلال كردستان العراق والتي وُصفت “بالمتهورة وغير المدروسة” التي أصرَّ عليها مسعود البرزاني رئيس الاقليم رغم تحذيرات محلية وأقليمية ودولية لتداعياتها ؛ تسارعت الاحداث حتى انقسمت الاحزاب الكردية داخلياً وتقدمت الحكومة الاتحادية مستغلة ذلك بالاضافة للدعم الدولي لها حفاظا على وحدة العراق ” كل حسب مصلحته من هذه الوحدة والقصد هنا الدعم الدولي والاقليمي ” ، فتم استعادة الكثير من الاراضي المتنازع عليها خصوصاً كركوك الغنية بالنفط والتي هي ” قدس أقداس الحركة الكردية ” كما يصفونها ، فارتفعت أسقف المطالب للحكومة المركزية لتجريد ” الطفل المدلل ” وهم شركاء الامس الاكراد من كل المكاسب التي استحوذوا عليها خارج اطار الدستور الهلامي الذي اقروه سوية ضمن صفقات لا يعلم الا الله والراسخون في الفساد كيف تمت ! ..
في حين يرى الكرد انهم لم يتمكنوا من استحقاقاتهم الدستورية ولم تلتزم بغداد بما توافقوا عليه معها ، مما دفعهم الى الذهاب لخطوة الاستفتاء التي يقيِّمها المراقبون على أنها الخطوة الاولى في فسخ عقد التحالف الكردي ـ الشيعي في العراق ، إضافة الى عودة التناحر الكردي ـ الكردي على سيادة الاقليم ، والنقطة الأهم التضييق حد القتل للحلم الكردي في العراق بالدولة القومية “في المنظور القريب على الاقل”.
لغة الصدام والتسقيط
تصريحات نارية يطلقها اعضاء في حزب الدعوة جناح نوري المالكي رئيس وزراء العراق السابق “كتلة دولة القانون” تصف حكومة الاقليم الحالية وعلى رأسها البرزاني ” بالارهابية ” ولا يمكن الجلوس معهم على طاولة الحوار ولايتم التحاور مع الكرد الا بعد تشكيل حكومة انقاذ جديدة ، مع العلم ان نوري المالكي لم يتمكن من سحب البساط من تحت اقدام اياد علاوي عام 2010 والفوز بولاية ثانية كرئيس للوزراء الا بدعم أربيل والتوقيع على اتفاقية بينه وبين مسعود البرزاني “كما سرب ذلك شركاؤهم في العملية السياسية” تعطي المالكي والبرزاني مكاسب حزبية وشخصية لكليهما ، ويُعتقد أن هذه التصريحات هي تصعيدٌ لمكاسبَ سياسية واستمالةُ الشارع المتخندق عرقياً وطائفياً اليوم ، بسبب قدوم موعد الانتخابات المزمع إجراؤها في آيار/مايو المقبل ، بالاضافة الى توسيع للشرخ الحاصل في البيت الكردي العراقي بعد استمالة حزب الاتحاد الكردستاني وحركة التغيير الكردية والجماعة الاسلامية الى جانب الحكومة المركزية ، ولاننسى اتهامات مسعود البرزاني لحزب الاتحاد رغم عدم تسميته بالاسم “بالخيانة العظمى” بسبب تسليم الاخير كركوك للحكومة الاتحادية دون مقاومة ، فقد كان للاعب الايراني الدور الابرز في ذلك بالضغط على ” حزب الاتحاد الوطني الكردستاني ” ووعده بمكاسب جمة في مرحلة مابعد البرزاني .
ولم يكن الحشد الشعبي “المدعوم ايرانيا” ببعيد عن لغة التهديد والاتهامات المتبادلة بينه وبين قادة اقليم كردستان بالخيانة والارهاب ووجوب الرضوخ للحكومة الاتحادية والا فسيدخل هذا الحشد اربيل !.. مما ردت عليه وزارة البشمركة انها وزعت اسلحة “فتاكة” على حدود كردستان حسب وصفها ستغسر موازين القوى في العراق اذا مافكر الحشد او القوات العراقية اخذ اربيل بالقوة العسكرية لفرض شروط بغداد من أجل التهدئة ..
أما الشريك الكردي فيحاول نيجرفان برزاني الرئيس الحالي المنتهي الولاية استمالته ، إن كان “الاتحاد الاسلامي أو حركة التغيير الكردية أو الجماعة الاسلامية” كي يبقوا على الحكومة الحالية لثمانية أشهر أو الإبقاء على الاقل رئاسة الحكومة في يديه ، مع مماطلة الجماعة الاسلامية او طلبٍ لمزيدٍ من الوقت ، فطلبت من نيجرفان إرجاع أموال العراق النفطية المهربة للخارج ومحاسبة الفاسدين ، مع مناقشات داخل مجلس الوزراء الكردستاني حول اسماء المرشحين لحكومة الانقاذ المحتملة ..
ضمانات ومراهنات دولية
ولايخفى على احد أن اي حراك سياسي أو إقتصادي عراقي لايمثل إرادة سيادية محلية فحسب ولكنه يستند أو ينبثق من مؤثرات إقليمية أو دولية بسبب وضع العراق المرتهن بالمصالح الدولية بعد الاحتلال وحتى الساعة ، لذا فليس من المستبعد أن يكون قرار الاستفتاء وتوقيته بأيعاز اقليمي أو دولي لصناعة أزمة جديدة بعد اقتراب نهاية صفحة داعش في العراق ، ولايستبعد أن يكون التصعيد من بغداد والرد الحاسم “وهو ماكان مطلوب وحدوياً وللمصلحة العامة ” بإيعاز ودعم أقليمي أو دولي ،ولاننسى أن استقرار المنطقة منوطٌ بالاستقرار السياسي داخل اقليم كردستان ومع الحكومة الاتحادية في العراق ليبعد التوتر والقلق لدول الجوار العراقي “ايران وتركيا” ، وللمصالح الامريكية في المنطقة .
اليوم تؤكد واشنطن وعلى لسان وزير خارجيتها “ريكس تيلرسون” دعمها للحقوق الدستورية لأقليم كردستان على حد تعبيره ، وهو الامر الذي يؤكد للجميع تمسك واشنطن بالابقاء على الاقليم الذي تدعمه امنيا وعسكريا واقتصاديا منذ عام 91 ، كما كانت التصريحات الاسرائيلية ليست ببعيدة عن حشد الدعم الدولي للأقليم تجاه العمليات العسكرية المتوقعة من قبل بغداد لتطبيق شروطها من اجل تطبيق الدستور ، فهي الدولة الوحيدة التي دفعت باتجاه الاستفتاء والذي يُقرأ من ذلك انها الدولة الراعية لأرباك التحالفات السياسية داخل العراق والداعمة بالخفاء لديمومة التوتر السياسي والعسكري بين طرفي الازمة العراقية اليوم.
أما إيران الداعم الرئيس للحكومة الاتحادية ولفصائل الحشد الشعبي فبالتأكيد تبحث عن ادامة امنها القومي وابقاء حدودها الامنية المفتوحة حتى البحر الابيض المتوسط كما صرحت في أكثر من موضع ؛ فلا يتوافق معها انتهاء الازمات في البلاد بعد داعش ، ولايتوافق معها ايضا تهديد مصالحها الاقليمية من خلال الابقاء على حكومة اقليم كردستان المتماهية مع المصالح الامريكية بالدرجة الاساس ، فتسعى الى تغييرها من خلال تحريك احزاب عراقية تأتمر او ترتهن بمصالح ايران للدفع نحو تغيير الحكومة الحالية للاقليم الى حكومة انقاذ تنطوي تحت عباءة حزب الاتحاد الوطني الكردستاني القريب جدا منها ، وبالتالي فرض النفوذ الايراني على الاقليم بالاضافة الى باقي البلاد .
بالتالي لدينا مواقف تدعو للأبقاء على الوضع الراهن والتهدئة ولملمة الازمة بترحيلها الى مابعد الانتخابات ، وموقف يطالب بالتغيير الفوري لموازين القوى داخل الاقليم والصدام ربما لأسباب عدة منها ان سبب الازمات الابقاء على السيطرة البرزانية على الاقليم وعدم حل المشكلات الا برحيل تلك السلطات برمتها .
حكومة الانقاذ في كردستان .. مهمة البقاء لمن وكيف ؟
وقبل الحديث عن شكل الحكومة المقبلة للأقليم ” حكومة أنقاذ أو انتخاب” لابد من التأكيد أن لا إستقرار في البلاد ولا من دفع للأزمات الا باستقرار العلاقة بين حكومة بغداد واربيل ، ولايمكن ان تتحقق معادلة التوازن الاقليمي داخل العراق ولا الوجود الدولي ” الحاكم الحقيقي للعراق” الا بوجود الاكراد داخل الحكم العراقي ممثلين غربيين في الداخل في مواجهة النفوذ الايراني المستفحل في البلاد ، ولايمكن القول ايضا أن كردستان العراق يمكنها الحياة بلا رئة وظهير بعيدا عن عمقها العراقي الكتمثل بالبقاء ضمن عراق واحد .
أما تشكيل حكومة انقاذ في ظل هذا التوتر الداخلي للاقليم قبل الداخلي لعموم البلاد فهناك رأيان :
الاول ـ لن يفضي ذلك الا لمزيد من الصراع :لمن ستميل كفة النفوذ والتي ستهيء الارضية والمناخ المناسب للحكومة المنتخبة بعد الاشهر الثمانية المقبلة ، من ناحية اخرى سيبقى القبول او الرفض لهذه الحكومة “المنقذة” من قبل بغداد مرهون بمقبولية الطرح الذي ستعتمده هذه الحكومة ، أي مايمكن قبوله وفرضه على الاقليم للمرحلة المقبلة من قبل المتنفذين في صناعة القرار العراقي في ظل التمهيد لبروز نجوم جديدة على الساحة السياسية في الانتخابات المقبلة “اقطاب مذهبية ” وهذا ماسيعطل الحوار لفترة اطول .
الثاني ـ لايمكن تهدئة الازمة وحلحلة المشاكل القائمة بين الاقليم والمركز الا برحيل الوجوه التي تؤخر عملية الحوار بعد ان ضاق بها الاقليم ذرعا لبقائها في المشهد السياسي والمتهمة بالفساد المالي والاداري بالاضافة الى فقدانها الوجود أو التمثيل الشرعي لأكثر من سنتين ، مع الاخذ بنظر الاعتبار أن هذه الوجوه لاتحظى بالتوافق السياسي الكردي مما يعقد مسألة الحوار والوصول الى نقاط تلاقٍ مشتركة بين شركاء الاقليم وشركاء الوطن ..
إذن .. يبقى التوافق على انبثاق حكومة انقاذ من عدمه مرهون بما يمكن ان تقدمه هذه الحكومة للشارع الكردي وللقوى الاقليمية والدولية النافذة فيه ، والوصول الى ترجيح المصالح المشتركة العليا على حساب المصالح الشخصية .. ولايمكن ان نغفل العامل الاقتصادي الذي تراجع كثيرا بسبب هذه الازمة وماسبقها من قتال داعش واستنزاف الموارد ، فالسؤال الاهم : من سيستطيع ان يوصل الامور الى اعلى درجات الوفاق مع جميع الاطراف ، أو على الاصح مع الاطراف الاكثر قوة ونفوذا ومصلحة للبلاد والوقوف بقوة بوجه مخططات الصدام المطروحة ، وماذا ستنقذ الحكومة في كلا الطرفين ” بغداد وأربيل ” : انفسهم أم الدول الكبرى أم الوطن ؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
حكومة إنقاذ كردستان .. إنقاذ لمن ؟ بقلم رعد عبد المجيد
آخر تحديث: