علي الوردي أنموذجاً

علي الوردي أنموذجاً
آخر تحديث:

المثقفون يبحثون عمن يلعنهم..
نوزاد حسن
باستغراب متوقع استمع دائما الى كتاب وصحفيين يشكون من عدم فائدة ما يكتبون.لقد باتت القناعة الوحيدة الراسخة في عقولهم – باستثناء القليلين- هي صعوبة تغيير اي وضع،وان المثقف لا يجد من يستمع اليه.انه غريب حتى عن زملائه الذين يشاركونه العمل في الصحيفة او في المؤسسة الاعلامية.هناك عزلة غير معقولة تفصل المثقف عن الآخرين،وتفصله عن زملائه الذين يرى فيهم صورة لمنافسة لا تنتهي مناوراتها.وانا اظن ان المثقف العراقي يعاني اكثر مما يحب،ويريد ان يكون ثوريا على طريقة فولتير وروسو اللذين حققا نصرا مشهودا حين اعترف لويس السادس عشر بان هذين الفيلسوفين افسدا فرنسا عليه.هذا الانتصار ليس سهلا ابدا.انه نصر قلما تكرر في تاريخ الافكار والشعوب.وعلى المثقفين ان لا يكونوا حالمين في قضية تغيير الواقع من خلال كتاب او قصيدة، او مجموعة كتب.

ما اسمعه دائما هو هذه الشكوى المريرة التي تتحول الى نقمة تعتصر قلب الكثيرين وكأنهم يعصرون بقوة افعى.فالواقع الذي يكتب عنه المثقف صلب جارح ولا يمكن تغييره ، او جعله يتهشم رغم عشرات المقالات التي تكتب هنا او هناك.لقد بقي الواقع  كما هو،والذوق ما زال خاضعا للخطاب الحزبي السياسي،وخاضعا ايضا لاغراء الخطب الدينية التي تقدم قصصها الجاهزة للتاثير في المستمعين.لا يشعر المثقف انه حاضر لا في الخطاب السياسي،ولا في خطبة رجل الدين. يريد المثقف العراقي ان يلعن من على المنابر لكنه لا يجد من يلعنه.ويطمح الكثيرون ان يستشهد احد الرؤساء بسطر مما كتبوا، كما استشهد بوش الابن ببيتين من شعر مولانا جلال الدين الرومي في احدى خطبه السياسية. المثقف وحيد لان لغته لا تستطيع ان تخترق صلابة درع خطاب السياسة،ولا اسوار اللغة الدينية. انه يكتب لغة ثالثة انعزالية فيها الكثير من يقين العقل،مع مسحة غامضة من وهم سطحي المعنى.ومع ذلك يتناسى المثقف ان شوبنهاور ظل بلا فائدة الى سن السبعين حين وجد الناس تحفته العالم ارادة وفكرة، عندها احتفلوا به وهو عجوز على ابواب الخرف. كذلك يتناسى المثقف العراقي ان ابا الطيب ادرك اللعبة المحزنة قبل قرون كثيرة حين وجد ان السيف اهم من القلم.وهذه ليست نكتة تروى،بل حقيقة عاشها المتنبي ونظمها في بيت يفسر انزعاج المثقف اليوم. يقول:
  حتى رجعت واقلامي قوائل لي
المجد للسيف ليس المجد للقلم
  بيت تفوح منه رائحة مثقف من طراز ابي الطيب.بيت شعري يلخص ماساة عشرات المثقفين ممن يجلسون في المقهى ويتحدثون عن عدم فائدتهم كما يتحدث عمال المطاعم او عمال البناء الذين يشعرون انهم يساقون في لعبة ولا يعرفون كيف ينهونها.

 لقد احس المتنبي بفضل فرديته العميقة بان هناك صلابة متكلسة يتشكل منها عالمه العجيب.نعم كان المتنبي واضحا ومدركا لقسوة القانون الذي يتألف منه العالم.وهذا كان احد اهم مشاكله التي صار المثقف يحس بضغطها عليه.لذا فانه طالب كافورا الاخشيدي حين ذهب الى مصر بان يمنحه ولاية يحكمها.وقد جاهر بهذا المطلب في احد قصائده.لكن الاخشيدي الذي جاء الى السلطة بضربة حظ لم يعط المتنبي شيئا بسبب طموح الشاعر اللامحدود.ولعل في مثال ابي الطيب نكتشف الابعاد الخفية لقلق وانهزام المثقف الذي يبحث عن دور فاعل يقهر به السياسي الذي يتحكم في كل شيء.   لا يجد المثقف انه متواجد كروح مؤثرة،ولا يشعر انه حي في لغته ولا كلماته ولا كتبه.كل ما يفعله ساكن لا يثير انتباه احد.في اكثر من مرة كان علي الوردي يتحدث انه كان يستمع من سماعة احد المساجد ان الخطيب يهاجمه فيعلق الوردي انه كان يطلق العنان لقدميه ويهرب راكضا.داخليا كان الوردي يشعر بالنشوة ، والانتصار فقد اقتحم اسوار الخطاب الديني المحصنة واثار الخطيب بحيث صار ما يكتبه حاضرا على السنة الخطباء الذين يحذرون المصلين من افكاره الهدامة ، واحيانا يهددونه بالقتل. ومع ان الوردي رحل عن عالمنا منذ اعوام فقد صادفت رجل دين لم ينبت زغب لحيته بعد يجلس في المكتبة الوطنية يتهجم على الوردي متهما اياه بالزندقة والعلمانية ، وانه درس في فرنسا وعاد بافكار المخربة.هذا الغلام المندفع لا يعرف ان الوردي لم يدرس في فرنسا وانما درس في اميركا.اذن هناك نشوة سرية داخلية كانت تفور في قلب عالم اجتماعنا الكبير،وكان يعيشها في كل ثانية بالرغم من كل عذابها  وازعاجها.نشوة الكاتب الذي تصطدم لغته بسور السياسة او الدين وتخترقهما تاركة هياجا في الناس الموجودين هناك في عالمهم الساكن.لذا لم تكن كتاباته تختلف في قوتها عن نقد رورسو وفولتير للنظام الملكي وللاقطاع ولكل الانتهاكات في زمنهما.كانت بساطته عميقة حالمة بتغيير صفة السكون في الخطاب الديني او السياسي.وكانت ثورته عنيفة وما زالت تهدر في القلوب.  

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *