لكي تعرف مَنْ هم، والسوداني واحدٌ منهم

لكي تعرف مَنْ هم، والسوداني واحدٌ منهم
آخر تحديث:

بقلم: علي الصراف

لو كان مصطفى الكاظمي رئيس الوزراء السابق هو الذي دعا إلى بقاء مفتوح للقوات الأميركية في العراق، لقلبت إيران وتنظيماتها وميليشياتها عالي الأشياء سافلها عليه. فخرجت تظاهرات مسلحة تندد بالوجود الأميركي، وقام الحرس الثوري بقصف القواعد التي بقي فيها أميركيون، وأطلقت جماعات الولاء صواريخ كاتيوشا على مبنى السفارة الأميركية في بغداد، وانعقد البرلمان ليصادق على قرار البرلمان الإيراني الذي طالب بإخراج القوات الأميركية من المنطقة. بل وهددوا بقتل مَنْ يوجه الدعوة على اعتبار أنه يشق عصا الطاعة على الولي الفقيه.ولكن محمد شياع السوداني وجه الدعوة، وبقيت ذيول الولائيين بين قوائمهم فلم ينبحوا، ولم تنبح إيران على صدى نباحهم، ولم تهدده بالويل والثبور ولا بالقذائف والصواريخ.السوداني يبدو وكأنه يريد أن يفرض نوعا من التغيير أو الإصلاح، فانطلق من ملف الكهرباء الشائك، ثم دخل “عش الدبابير” بالحديث عن بقاء القوات الأميركية، ولكن من دون أن يقرصه دبور واحد.هل ترغب بأن تسأل لماذا؟

حسنا. هذا وجه واحد من وجوه النفاق المألوف، ليس للجماعات الموالية لإيران وحدها، وإنما لإيران نفسها، لأن جرأة السوداني على تبني “موقف متميز”، مستمدةٌ في الأصل من توجيه صدر له، وتمت المصادقة عليه من هناك.والنفاق أو “التقية”، مثل الاشتراكية لدى أحزاب أخرى، مبدأ أيديولوجي في المذهب الشيعي الصفوي. وله تنظيرات مسطورة في كتب. وهو سلوك “سوسيولوجي” و”سايكولوجي” في إيران ومن لفَ لفّها في الدين والسياسة والقوادة.خذ على سبيل المثال “زواج المتعة”، حيث لا تعرف أين ينتهي الدين لتبدأ القوادة. ولكنه مبدأ “شرعي”. وله، هو الآخر، تنظيرات مسطورة في كتب، على أن ممارسته “دين”.

وثمة في الديانة الصفوية ما يبرر لكل مجرم، حتى لو سرق، طالما أنه يبكي على الحسين، فيشفع له يوم القيامة. وهذا مبدأ “شرعي” أيضا. وله تنظيرات مماثلة.وخذ على سبيل مثال آخر، ما صار يدعى بـ”سرقة القرن”، حيث أصدر السوداني “تشريعا” شفاهيا، لا علاقة له بأي شرائع، يقضي بإطلاق سراح اللصوص إذا أعادوا ما سرقوه. والوحيد الذي ألقي القبض عليه، أُطلق سراحُه مقابل إعادة بعض ما سرق، وبقي الباقي في جيبه. أما الآخرون، فهات مَنْ يبحث عنهم أو يلقي القبض عليهم. ولئن قيل إن الأموال ذهبت إلى تركيا والأردن، على سبيل التورية، فالحقيقة هي أن معظمها ذهب إلى جيوب الولي الفقيه. وتعمد المسؤولون ومَنْ يقف خلفهم، ألا يتم ذكر إيران كوجهة من وجهات النهب، لأن صيتها، في هذا الباب، شق الآفاق كلها.

وكان ولي أمر السوداني، نوري المالكي قد حكم العراق لثماني سنوات، تمت خلالها سرقة 400 مليار دولار، بحسب التقديرات الرسمية المعلنة، فلم يسائله أحد عما ضاع تحت ظله الوارف. وهو بقي يحكم العراق من وراء الستار في إطار “نظام المحاصصة” فتواصلت أعمال النهب، التي تأسست لها بنوك أكثر مما يوجد في نيويورك، بينها 12 فرعا لبنوك أجنبية، و25 بنكا “تجاريا أهليا”، و27 بنكا “إسلاميا أهليا”، تنهب من 7 بنوك حكومية، على نحو “شرعي” و”إسلامي”.السوداني ذهب إلى ألمانيا لحل مشكلة الكهرباء، إنما بعد أن أضاع العراق، تحت سلطة الولائيين ما لا يقل عن 300 مليار دولار في سرقات وألاعيب وصفقات وهمية، وترتيبات لشراء توربينات غاز، لتكتشف وزارة الكهرباء، ذات صباح، أنه لا يوجد غاز، فتذهب إلى إيران لشرائه! الآن فقط صار من الممكن الذهاب إلى المصدر الذي تم تعطيل مشاريعه وتجاهل عروضه لنحو عقدين من الزمن، إنما بعد أن امتلأت جيوب ودكاكين الولائيين بالمال الحرام – الحلال نهبه.

ولقد تمسك الولائيون بالعودة إلى السلطة لأن عائدات النفط تراكمت حتى بلغت الاحتياطات 130 مليار دولار. وكانت الفكرة التي حكمت الصراع بين جماعات “الإطار التنسيقي” وبين “التيار الصدري”، هي مَنْ يتحكم بهذا المال، أو بعبارة أخرى، كيف تتم “محاصصته” بحيث يبدو اللص وطنيا، والميليشياوي المنفلت جنديا منضبطا، ورئيس الوزراء رئيسَ وزراء فعلا.وانتهى الأمر كما هو معروف، بأن كسب المالكي المعركة، ليس لأن غريمه أراد خوضها ليكسبها، بل لأنه خاضها ليخسرها حصرا، فيعود إلى مكانه كمشاغب يبيع الشعارات الفارغة، ثم يُفسدها بنفسه. وهذه واحدة من طرائق لف العمامة، التي لا يُجيدها إلا الذين يبرعون في “الدين”، باعتباره نوعا من أعمال الخداع؛ الخداع الذي إذا لم تكفه لفّة واحدة، لفّ لها الثانية. وهي قد تسمى لعبة “كراس موسيقية”، إلا أنها في العراق، لعبة مَنْ يُقلّب بين بيضاته، الفاسدة بأفسد منها، فلا تعرف أيهما الأولى وأيهما الثانية.

ففي حين أعطى الكاظمي لإيران أكثر من أي رئيس وزراء سبقه، سعيا لطمأنة الدبابير، يحاول السوداني أن يبدو وكأنه يمنع عنها أكثر من أي رئيس وزراء سبقه، والدبابير راضية!تحتاج أن تكون من أهل “الكار” الصفوي لكي تفهم كيف يكون ذلك.ولكن المسألة وما فيها، هي أن صاحب دكان التقية الرئيسي يريد أن يُعطي انطباعات مختلفة. فلا تبقى لاصقة به صفة أنه الحرامي الأكبر. ولا تبقى لاصقة بالولائيين أنهم مجرد أتباع لا يرعون في تبعيتهم شيئا أو أحدا.والولايات المتحدة، بما اكتنزت من خبرات في العراق، تعرف هذا، وتتماشى معه، وتأخذ حصتها منه، وهي تغمز لنفسها غمزة العارف. إنما لتكسب من هذا ما لم تستطع كسبه من ذاك. ولكي لا تقطع جسرا من جسور المنافع، لا مع الميليشيات التي كانت تقصف معسكراتها، ولا مع إيران التي تريد طردها من المنطقة.

السوداني هو الشخصية الأمثل التي يمكنها أن تتوسط “عملية سياسية” لتغيير الانطباعات. فهي بالمعنى الحرفي للكلمة، “عملية نصب” تتوسط المسافة بين الدين والمتعة. فلا يتظاهر ضده أحد، إذا دعا إلى بقاء مفتوح للقوات الأميركية، ولا تحتج إيران عليه إذا جاء بشركات ألمانية لحل مشكلة الكهرباء، ولا يندد به مقتدى الصدر، ولا ينزعج منه الأكراد إذا تجادلوا على “حصتهم” من الميزانية.والرجل يحارب الفساد، إنما بصفقات من نوع: لا بأس أن تسرق، إذا ما قمت بإعادة جزء من المال، وبكيت على الحسين، لكي تحتفظ بالباقي.هؤلاء هم، إذا شئت أن تعرفهم. والسوداني واحدٌ منهم.

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *