ليت المرء لا ينشر

ليت المرء لا ينشر
آخر تحديث:

 بقلم : عبد الزهرة زكي
أبواب الجحيم
(يقولون لك :” كم هو رائع أن تكون نفسك، وأن تختلف عن الآخرين”. لكن حين تفعل، تفتح عليك أبواب الجحيم من كل الجهات).هذه الشكوى من الروائية اميلي نوتومب، وهي بلجيكية تكتب بالفرنسية، وتحيا في أوروبا، إنها ليست لكاتبــة من واحد من بلداننا.الطقس جميل برغم المطر،الشعر لا يريد أن يكون خاضعاً ومستسلماً لمؤثرٍ حتى وهو في أشد محاولاتِه للتعبيرالمخلص عن مُحفّزٍ ما.
لا شعرَ بلا دافع أو مُحفّز.ينتظر الشعرُ الحافزَ فلا يتمنّع على التحفيز، لكنه يتملص من التأثير؛ نجاحه هو في مدى قدرته على التحرر من التأثير من جانب، ونجاحه الأهم من جانب ثانٍ هو في إمكانيته على التعبير الخلاق عما يهديه إياه المحفِّز.لكن من المحفّزاتِ ما لا يمكن للشعر إلا أن يظلَّ حاملاً في أعماقه آثارَها وتأثيرها الذي لا يمكن تفاديه في أي حال.
آثار التحفيز، في بعض حالاتها، ليست علامات مرض في القصيدة، إنها نتيجة منطقية لأثر الثقافة والبيئة والمحيط في الشعر.ليس الشعر (جلمودَ صخر) منقطع عما يحيط به من مؤثّرات. حتى الصخر يحمل أيضاً في تكوينه والشكل الذي يكون عليه آثاراً من تحديات الطبيعة عليه.الشعر عنصرٌ حي، وكل حيّ ينفعلُ بالمحيط دائماً، وينطبعُ بالمؤثّرات المختلفة حيناً بمثل ما يقاومها ويتفاداها. في التعبير التالي، وهو واحد من محاولات تعريف الشعر وصلته الحميمة بالمفارقة، وهذا نصه: (الشعر هو معرفة القول بأنها تمطر عندما يكون الطقسُ جميلاً، وبأن الطقسَ جميلٌ عندما تمطر ـ ترجمة شاكر لعيبي ـ)، يريد الشاعرُ والكاتب الفرنسي رايمون كينو التأكيدَ على قيمة المفارقة كمعيارٍ لتحقق الشعر؛ الشعرُ بهذا التعريف يتحقّق بحالة  التضاد الذي تجعل الطقس جميلا برغم المطر، وبحصول المطر برغم جمال الطقس، وهي مشاعر غربية تنزعج من تعكير المطر لجمال الطقس، حيث جماله يقترن بظهور الشمس والتمتع بها في البلاد الباردة. هذا التأكد ومن خلال مثاله المعتد ينبّه أيضاً، وهذا ما يهمّنا هنا، على تأثّر التعبير الشعري بالبيئة والمحيط.
في تلك البلاد سيكون مثل هذا التعبير مفارقاً، وبالتالي شعرياً، بينما القول نفسه في بيئة أخرى صحراوية قاحلة ويسعدها المطر سيكون تعبيراً متوقَّعاً ومعتاداً، وبالتالي فهو مما لا يعتدّ به شعرياً في ثقافة كثقافتنا.
اليد تكتشف
في الفيلمِ الأميركي (الأعمى)، وفي ساعة وجدٍ وانتشاء عاطفي، يسأل الكاتبُ الروائي الأعمى مساعدتَه التي أحبّها أن تصف له شكلها وجمالها، فتردّ عليه: ـ انظر إليه، تستطيع أن تراه. تمتد كفُّ الكاتب الولهان إلى وجه المرأة المنتشية وعنقها وكل جسدها. ليقول:
ـ لقد رأيتك..  كانت يدُه تكتشفُ فترى، وكان جسدُها يُكتَشَف، فيتحرّر.
صمت وضجيج
قبل عامين كتبتُ نصاً نثرياً، وليس شعرياً،، كان طويلاً نسبياً، وكان عن (الصمت).
النص، وهو أقرب إلى المقال، كان بوحي من سائق تاكسي شاب.. تحدث خلال الطريق عن صلته بالصمت وفهمه له وإيثاره له على الكلام، وكان بذلك يتحدث عن تجربة شخصية عاشها ووصل بموجبها إلى هذين القناعة والسلوك.
لم أنشر النص حتى الآن. وكان هذا من حسن الحظ ومن فوائد التأخر عن النشر.
فبفعل طبيعتي الشخصية التي غالباً ما تؤْثر الصمتَ والإصغاء فقد بدا النص، هو أيضاً كما سائق التاكسي، منحازاً تماماً إلى الصمت. ولعلّ طبيعة حياتنا خلال هذه السنوات وما يرافقها من صخب عنيف وقاسٍ هي ما عللت ذلك الانحياز، وما جعلت الكتابة تنصرف كلياً عن أية قيمة ممكنة للصوت والكلام في الحياة والعالم المعاصر يمكن أن تكون موازية للقيمة المفترضة 
للصمت.
الصوت والكلام باتا قرينَين للصخب والضوضاء.. 
لكن هل يصح هذا تماماً؟ وإذا ما صحّ فهل من الصواب تحميل (الصخب) كلَّ هذا الانطباع السيئ المتراكم فينا ضده؟
حقيقةً لم أنتبه إلا مؤخراً لمثل هذه التساؤلات التي قد لا تقنع مَن يختلفون معها ويجزمون بيقين قاطع انحيازهم ضدها لصالح الصمت وما نحفظه من تصورات رومانسية عنه.
يمكن الانشغال بفكرة، أية فكرة، وحتى التعصب لها، لا بأس في هذا، ولكن ما دواعي الانصراف تماماً عما يقابلها ويختلف معها، هل قال العرب قديماً إن الشيء يُعرف بضدّه؟ والمعرفة بالضد تتضمن معرفة بالمتقابلين المختلفين، وهي معرفة تسير باتجاهين، فمعرفة الشيء قد تفضي إلى الإيمان به وربما إلى جحود قيمته لصالح قيمة ما يقابله من ضدٍّ. بعض جوانب تفكيرنا نتحدث عنها كما لو أنها حقائق قاطعة. وهذا من نتائج الجهل بالمختلف، ولكلِّ جهل خسائرُه التي سيكون الكثير منها غير منظور وغير محسوب.
مصادفة قراءتي خراً لكتاب مترجم صدر عن منشورات كلمة، وهو بعنوان (الضجيج) لمؤلفه ديفيد هندي، كانت هي مناسبة هذه العودة لنص (الصمت) غير المنشور، وهي داعي هذه التساؤلات، فكتاب (الضجيج) مجال حيوي لمتعة فكرية ليس يسيراً التوفر عليها بمثل هذا التركيز. إنه كتاب يريد إعادة الاعتبار لقيمة الضوضاء في الحياة وعوالمنا المتغيرة والمتبدلة. وهو بهذا واحد من كتب معدودة بمثل هذا الاهتمام. 
من الكتب ما هو نادر في صدمته وفي رخاء ما يقدم به هذه الصدمة، وكتاب ديفيد هندي، بالترجمة الخلاقة التي قدمها بندر محمد الحربي، من بين هذه الكتب التي تظل قريبة من النفس دائماً. ينبغي أن لا نتردد في تغيير وتعديل ما نكتب وما نفكر به كلما وفّرت المعرفة والثقافة لنا ذلك، حتى وإن جاءت المعرفة متأخرة. لقد وجدت من المفيد إعادة التفكير بالنص المحفوظ لدي عن (الصمت) وتَوسِعة أفقه بما وفرته لي ملاحظاتي المستلهمة من كتاب الضجيج.
الكتابة متعة في التفكير والنتائج لا ينبغي لها أن تتوقف حتى وإن اعتقدنا أننا قد فرغنا منأي نص من نصوصها وأنجزناه.ليت المرء لا ينشر إلا بعد انقطاع صلته بالكتابة، ليته لا ينشر إلا بعد إيذان السفر الأخير.

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *