متى تملون أصواتَ الرصاص؟

متى تملون أصواتَ الرصاص؟
آخر تحديث:

 

  ابراهيم الزبيدي

يشعر أبناء جيلي الذين ولدوا في منتصف القرن الماضي، وما بعده، ولغاية أوخر الستينيات، بالضيق والانزعاج بما يرونه اليوم أكثر ممن ولد في نكسة حزيران 1967، أو حرب تشرين/ أكتوبر 1973، أو حرب الخميني وصدام. فهم لا يطيقون العسكرة الشاملة التي غزت وتغزو حياة العراقيين، وتعشعش في أمخاخهم قبل المفاصل والشرايين.

فأين ما وليت وجهك، اليوم، فثمة ما يصدمك من صورٍ ضباط جيش الحكومة وجنودها وشرطتها، في كل ساعات الليل والنهار، صيفا وشتاءً، وهم ينتشرون في كل مكان، ويحيلون جمال كل شيء إلى قبح وخوف وغم، أو مناظر(مجاهدين) ملثمين يهرولون دائما، ولا يسيرون كما يسير الناس، بسياراتهم المُظللة المنطلقة كالرصاص، والمثخنة بآخر أصناف الأسلحة، وأحدث أنواعها البريطانية والألمانية والفرنسية والتشيكية والرمانية والأمريكية والروسية والكورية والإيرانية والإسرائيلية، فيجتازون الشوارع الآمنة بزماميرهم المفزعة. وإذا ما ضاق عليهم الطريق المزدحم بسيارات العابرين وباصات نقل التلاميذ والعمال والموظفين، وسيارات الإسعاف والحريق، لا تتفاجأ حين تهدر رشاشاتهم وبنادقهم ومسدساتهم، مع أبواق زمامير مخيفة تخبر عباد الله الراجلين والراكبين بضرورة إخلاء الطريق، لسيد، أو لابن وزير، أو مدير، أو زوجة زعيم. وإذا كان للشارع رصيف فلا تستغرب أن يركبوه ويطردوا عنه مُشاته الآمنين، بشجاعة ليس لها نضير.

 

وأنت في سوق الخضار، أو المخبز أو الصيدلية أو دكان العطارة أو المستشفى أو المدرسة أو الجامعة أو المسجد أو الحسينية أو موقف سيارات النقل العام أو الخاص، لا تدري متى تفاجئك قنبلة، أو يفجر مفخخٌ نفسَه، فتصبح، أنت ومن معك، من نساء ورجال وأطفال، هباءً منثورا، ولا يقرأ على روحك الفاتحة أحد.

 

وفي المنزل والمقهى لا تفتح جهاز تلفزيون إلا وتهجم عليك دبابات تطلق نيرانها المرعبة، أو طائرات ترمي حممها المحرقة، أو مقاتلين مختبئين وراء متاريسهم يتصيدون وحشا من داعش، أو من شيطانا من الوهابيين أو السلفيين أو الصداميين أو النقشبندية، أو داعشيين يتربصون بمقاتلين من الحشد الشعبي، أو (الصحوات)، أو بيشمركة المحررين الكورد الميامين.

 

كلُ مقرات الأحزاب والمنظمات والجمعيات، ودواين الزعماء المعممين، أو غير المعممين، في بغداد وكل مدينة في الوطن الكبير صارت ثكنات عسكرية محرمٌ دخول الشوارع المحيطة بها والقريبة حتى على الطيور والعصافير. أما رأيت مواكب حمايات عمار الحكيم ونوري المالكي وهادي العامري وقاسم سليماني وفؤاد معصوم وأياد علاوي وأسامة النجيفي وصالح المطلق؟

 

حتى الدكاكين والمطاعم والملاهي صارت تتباهى باستئجار أصحاب العضلات المفتولة لحراسة مداخلها وتفتيش روادها، ملوحين برماناتهم ورشاشاتهم، ولا يبتسمون. إن أهلنا العراقيين اليوم، حتى في أفراحهم، وأعراسهم، وجنائزهم، يطلقون الرصاص.

 

شوارعنا وساحاتنا وحدائقنا العامة ووزاراتنا ومسارحنا ومراقصنا ومطاراتنا أصبحت معارض دائمة تغص بـ (لافتات) النعي، أو برايات الأئمة والأولياء. وحى شراشفُ المطاعم أصبت سودا، حزنا على شهيد، أو خوفا من حزب شهيد.

 

وصحفنا ومجلاتنا ومواقع (إنترنيتنا) مزدحمة، دائما برائحة البارود وجثث الميتين. أو بأرتال المجاهدين الذاهبة إلى ساحات الحروب المقدسة لكي تعود محملة بالغنائم أو تموت.

 

وعلى شاشالت جميع تلفزيوناتنا، وعلى أثير جميع إذاعاتنا، يستحيل أن تسمع نشرة أخبار واحدة دون بيان من مليشيا تهنؤنا بقتل المئات من (أعداء الوطن)، ودون بيانات أخرى، من وزارة تزف لنا بشائر قتل العشرات أو المئات من (أعداء الوطن).

 

لا تكفينا أخبار العراق وحدها، بل يسابق بعضُها بعضا بإذاعة أخبار القتل اليومي (الإلهي) في سوريا واليمن والبحرين ولبنان وغزة والضفة وسيناء والقاهرة والاسكندرية وبنغازي وطربلس وسرت ومصراتة والصومال ونايجيريا وأفغانستان وباكستان. وما خفي كان أعظم.

 

فمن ولد أيام المقاومة الشعبية، وثورة الشواف، وأحداث الموصل وكركوك عام 1959، أو أيام الحرس القومي البعثي، أو (ردة) تشرين 1963، أو أيام نكسة حزيرلن 1967، أو حرب تشرين أكتوبر1973، وحرب الخميني وصدام 1980 – 1988، وغزو الكويت 1990 والحصار، ثم أيام السقوط المدوي بدبابات العم سام 2003، وبدء العهد الإيراني الزاهر، وحكم العمائم السود والبيض والخضر، تزعجه أصوات الرصاص، ولا تقلقه كثيرا مواكب العسكر التي تمخر الساحات والشوارع، وتملأ المراقص والمتنزهات، ولا يشكو من عويل الأرامل والثكالى ولا بكاء اليتامى، والمهجرين والمهاجرين، لأنه ولد مع الموت، واعتاد على مجالس العزاء، ولبس الكاكي، يوما من الأيام، وحمل رشاشا أو مدفعا، أو قاد دبابة، في عهدٍ من العهود (الوطنية) المتعاقبة دفاعا عن شرف الجماهير، وعن العدالة والقانون والسيادة وتراب الوطن العزيز.

 

أما نحن الذين ولدوا أيام الهدوء وراحة البال والسلام والأمان والأريحية، أيام الـ (عيني) والـ (أغاتي)، فلا ننزعج فقط بل نلعن الساعة التي طال بنا العمر حتى أصبحنا نرى ما نرى. إن كل صوت رصاصة تزلزل عقولنا وتخنق أرواحنا. ومنظر الجندي والشرطي والـ (مجاهد) الذي يقتحم صباحنا أو مساءنا يدير رؤوسنا، وينكد علينا حياتنا، فلا يملك أحدنا سوى الهرب من الوطن إلى أعداء الوطن، أو البقاء والموت بالكآبة والسكري والكوليسترول وضغط الدم.

 

كان في العراق كله، في أيامنا الراحلة، محطة تلفزيون واحدة، ومحطة راديو واحدة. وكانت برامجهما، في غالبيتها، ثقافية وخدمية وترفيهية، وندوات أدبية وموسيقية وعلمية لا تنتهي، ومسلسلات وأفلام عربية وأجنبية لا تنقطع، حين كانت دول العروبة كلها لا تعرف ما هو التلفزيون. مع نشرة أخبار واحدة في اليوم

 

على التلفزيون، وأربع في الإذاعة، أكثرُها عن العراق، وأقلـُها عن مصائب الدول الأخرى التي لم نكن نعرف موقعها على الخارطة.

 

كانت حياتنا بسيطة وفقيرة قليلة المال، ولكن راضية ومرضية وآمنة بلا حدود. والناس تسلم على الناس وتبتسم. والكل يعمل مع الكل. لم نكن نسأل، في الإذاعة والتلفزيون والصحافة والحكومة والمقاهي والمدارس والمشافي والدكاكين والحدائق، عن ديانة هذا المواطن أو ذاك، ولا عن طائفة هذا الشاعر أو المغني أو النحات أو المؤرخ أو الخباز.

 

إذا كتب موظف رسالة على ورقٍ حكومي يتهم بالاختلاس واستغلال الوظيفة. لا نعرف القتل ولا الاغتيال ولا السرقة ولا المخدرات. والذي يخالف الحاكم بقصيدة أو مقال أو كتاب كان يحاكم، ولكن كانت نقابة المحامين تأتي بعشرات المتطوعين من أعضائها للدفاع عن حرية الرأي والعقيدة ولا يختطف أحد، ولا يطرد من وظيفته أحد، ولا يجلد بالسياط أحد.

 

ممنوع على ضابط الجيش أن يرتدي لباسه العسكري في غير أوقات الخدمة. ومن يثبت عليه اعتداؤه على مواطن يعتذر أو يعاقبه القانون. وشرطي المرور لطيف وحميم ورحيم وبلا سلاح.

 

كان الناس ينامون بأمان، ويسافرون بأمان أيضا، ويتركون منازلهم وسياراتهم دون خوف. والجار يحرس منازل الجيران، ويغارعليهم كما يغار على أهله الأقربين.

 

سؤال. ترى لو أحصينا جميع أثمان المدافع والطائرات والدبابات والمفخخات والصواريخ والقنبال والرصاص، وجميع رواتب ضباط الجيوش وجنودها، وقادة المليشيات و(مجاهديها)، ومصاريف تنقلاتهم وإعاشتهم وملابسهم، وأكلاف ما سببوه من دمار خسائر لوطنهم بتهديمهم المباني والطرق والجسور، وحرقهم المزارع والمصانع، واحتلالهم الأراضي الواسعة لدفن (شهدائهم) الخالدين، من العام 1958 وحتى اليوم، وأنفقناها على بناء المشافي والمدارس والجامعات ومراكز التدريب والتفكير والاختراع، وعلى تنمية المزارع، وتحديث المصانع، وعلى الحدائق والمتنزهات، ودور رعاية الأيتام والمسنين، ألم يكن العراق اليوم أفضل من عراق (المجاهدين) و(المناضلين) الأشاوس؟

 

لماذا سمحتم، أيها العراقيون، لحفنة من ذوي الرصاص الحكومي والشعبي، بأن تُضيع نفسها وتُضيعنا معها، وتفسد حياتنا، وتعسكر فيها كل شيء؟.

 

وأخيرا، متى تملون أصواتَ الرصاص؟

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *