نسج الحداثة على نول الموروث الشعبي

نسج الحداثة على نول الموروث الشعبي
آخر تحديث:

حميدة الطيلوش

إن حضارة الأمم و الشعوب لا تقاس بما لديها من تطور علمي وتقني واقتصادي بل تقاس بما يوجد فيها من ارث وتاريخ زاخر بالتراث، وقدرة أبنائها على المحافظة على هذا التراث و تحديثه.
فالعلاقة بين التراث والحداثة، علاقة تلازمية تتطلب من الفنان الوعى بأهمية المخزون التراثي والثقافي الذي يمثل أساس الحضارة وذلك بإعادة البحث فيه ومحاورته ونقده وانتقاء ما يتماشى ومتطلبات الحداثة التي تبحث في طياتها عن الجديد والمحدث. لذلك كان لابد من حضور فعل إبداعي متوثب يبدع الرموز من جديد، يولدها ثانية، بمعنى يبعث فيها الحياة بصفة متجددة… وفي هذا المجال تتنزل تجربة ثلة من الفنانين التونسيين الذين تجمعهم بالتراث الحرفي علاقة أبوية.
والحرف الفنية وجه من وجوه هذا التراث، يتضمن نظاما من العمليات الفنية المتغلغلة في الذاكرة الثقافية، كما يحتمل تركيبة ذوقية ورمزية متداولة نرثها في شكل نماذج شبه جاهزة. من بينها «المنسوج الفني» كالزربية والمرقوم وغيرهم والتي تحتوي على مجموعة من الرموز الشعبية. منها «الجمل» ويظهر في «الزربية» وفي «المرقوم» من خلال رسمه في قالب مثلث والجمل له وقع في ذاكرة الجنوب، فهو وسيلة العيش والترحال. كما يحيل إلى عدم الاستقرار وعندما ينعدم المستقر تنفتح المخيلة على فضاءات أخرى للحلم بالحرية والتأمل في الكينونة. ويحيل الجمل في المنتوج الحرفي إلى حمولة أنطولوجية وتاريخية فهو وسيلة العيش وتشكيله هندسيا في قالب مثلث يمكن أن يشير إلى دلالات أخرى، إنها هندسة تجريدية هرمية تستبطن خصوصيات بنى اجتماعية أبوية في تركيبة ثلاثية الأضلاع: الأب، الأم، الابن…المستوى الثاني لهذه البنية يدل على انصهار الفرد ضمن إطار القبيلة أولا في رأس الهرم ثم العائلة في زاوية من زوايا المثلث ثم الفرد في الزاوية المتبقية. هذه الهرمية تستبطن أيضا هرمية أنطولوجية-دينية.
منظور هرمي يظهر تشكيليا من خلال تصرف في الخطوط تصرفا هندسيا تجريديا يدل على قدرة إبداعية وجمالية عالية. إن تكرار هذه «الرقمة» يؤدي إلى وجود صور تشكيلية أخرى ك «السمكة» أو «الخمسة» وهذا يعني بالأساس تنوعا تشكيليا بالغ الأهمية. تشكيل يروي ثقافة و يستبطن حكاية ويعترف بمحاكاة وبأفراح و احتفالات وأحلام وأحزان.
أما «العين» موجودة تقريبا في كل منسوج حرفي و رسمها بإدراك لعمقها التشكيلي أو نوع من التكرار اللا إرادي وهذا هو الفرق بين لمسة الفنان وصنعة الحرفي. «العين» رمز الحسد في بعد من أبعادها كما يظهر ذلك في التقاليد و لكنها أيضا رمز الجمال وعمق الرؤية واستبطان لسحر الوجود والعشق وعذابات الكينونة.
إذا عدنا الى الحرف فإننا نجد أنها قد تأسست تاريخيا على تجريد هندسي وخلاصة في الرقش إذ يظهر في قالب معالجات تشكيلية مجردة تجريدا تاما وارتبط هذا الفن أيضا بتزيين المساجد وتزويق حيطانه وتشكيل منابره. إذا هناك تضافر وتعاضد بين الوظيفي والجمالي في الإنتاجات الحرفية والإبداعية ذات العلاقة بالتراث. إن الجمالي يتحدد في هذا المستوى وفي نهاية المطاف من خلال الدور والوظيفة كما نجد ذلك في المنمنمات الزخرفية.
اتخذت مجموعة من الفنانين المنسوج الفني منبعا استلهموا منه رموز التراث. على غرار الليبي عادل جربوع الذي تحتوي مجموعة من أعماله على رموز مستلهمة من الزربية أو الكليم. أشكال هندسية ذات شكل هرمي تتكرر في اللوحة بأحجام واتجاهات مختلفة. في شكل عمل تجريدي يأخذ من روح التصوير الشعبي ورموز المنسوج الفني مع نفحة من روح المعاصرة في تقسيم فضاء اللوحة. لتكون المراوحة بين التراث و الحداثة.
أما العمل الثاني «لعادل جربوع» فجاء في شكل مربعات صغيرة تحمل رموز مستوحاة من المرقوم والزربية. ويمثل تقسيم المساحة إلى مربعات صغيرة إحدى مميزات المرقوم الشعبي.
ورسم عادل جربوع داخل هذه المربعات رموز المنسوج الفني كالجمل والهلال والشكل الهرمي والأشكال الهندسية بمختلف أشكالها.
وفي نفس المنحى قامت الفنانة السعودية «هدى الرويس» بمجموعة أعمال، وذلك نحو الحفاظ على الهوية الثقافية الفنية المحلية والأخذ من مفردات المنسوج لما تحمله من نقوش وزخارف فنية غاية في الجمال والإبداع، وما تحتمه روح المحافظة على هذا الموروث وإحيائه بلوحات فنية حديثه ومعاصرة.
تميز أسلوبها بالتعامل مع العناصر التراثية الشعبية السعودية. كالزخارف الشعبية التي تذكر بالتراث السدو والمنسوجات الشعبية وزخارف المعمار الشعبي السعودي النخلة وسعفها زخارف الأبواب والنوافذ الشعبية. كذلك الحصان أو الفرس العربي الأصيلة. وكلها رموز وزخارف شعبية قامت الفنانة بإخراجها في أعمالها بشكل فني رزين بطابع حداثي يدمج بين التراث والمعاصرة.
تأتي تجربة التشكيلية (هدى الرويس) لتؤكد ذلك من خلال معرضها الذي حمل عنوان (تراثيات) المعروضات جميعها من التراث ومن مفردات تشكيلية حيث البيئة المحلية كنقوش السدو، زخارف الأبواب القديمة، تداخلات أعساب النخيل بألوان مستمده من دفء ألوان التراث الحمراء، والصفراء بدرجاتها اللونية الزاهية.
تقول التشكيلية (هدى الرويس): «استخدمت المفردات التراثية بخطوط حديثة وإدخال التقنية في هذا المجال كتقنية الحاسب الآلي حيث تنوعت التجربة من الرسم مباشرة على الحاسب الآلي، أو إدخال اللوحات المرسومة وإضافة بعض التأثيرات الفنية عليها». وتضيف: «ولكسر جمود اللوحات المطبوعة ، فقد قمت بالرسم عليها بالألوان المائية أو بألوان الأكريليك وتخطيت ذلك بإضافة بعض الوسائط والخامات على الكانفس المطبوع لإحيائه ولإعطائه روح ملمس اللوحات المرسومة باليد».
لقد استطاع المنسوج الفني أن يكون منبعا ينهل منه الفنان المعاصر رموزا شعبية كل بأسلوبه. والغاية هي إثراء البحث الجمالي، وهو ما يؤكده (محمد محسن الزارعي) بقوله: «إذا نحن قيمنا الصناعات التقليدية من جهة العولمة، لا ينبغي أن يؤدي ذلك إلى الانغلاق، فتتحول الهوية إلى عائق أمام استمرارية المنتوج التقليدي، استمرارية تنم عن قدرة على التنافس وكسب رهان الكونية…لنتوق إلى رهان أشمل غير محدود».

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *