الكونغرس زعلان

الكونغرس زعلان
آخر تحديث:

بقلم:إبراهيم الزبيدي

أذكّركم بما يلي:

في السابع من حزيران – يونيو 1981 دخلت طائرات إسرائيلية إلى العراق وقامت بتدمير مفاعل تموز النووي العراقي الذي كان يشرف على إنشائه مهندسون فرنسيون وإيطاليون.وفي وثائق شديدة الحساسية حصل عليها أرشيف الأمن القومي في واشنطن، بموجب قانون حرية المعلومات، ومنها برقيات البيت الأبيض ووزارة الخارجية ووكالة المخابرات المركزية، ورد أن اجتماعا سرّيا عقد في باريس يوم 25 يوليو – تموز 1980 (أي قبل قصف المفاعل بعام) بين دبلوماسيين أميركيين ومسؤول فرنسي رفيع المستوى في مجال حظر الانتشار النووي لمناقشة شحنات اليورانيوم المتجهة إلى العراق. وفي هذا الاجتماع أبلغ المسؤول الفرنسي الوفد الأميركي بأن المواد المشحونة إلى العراق قد تم تعديلها كيميائيا، سرّا، لجعلها عديمة الفائدة في حال استخدامها لتطوير أسلحة نووية، وأن فرنسا التي بنت المفاعل صمّمته بحيث لا يتحول إلى منشأة لإنتاج مواد انشطارية.

ولكن رغم ذلك لم تنتظر إسرائيل اكتمال بناء المفاعل، رغم علمها بأنه مغشوش ولا يُشكل خطرا على أحد، بل قامت بتدميره بالكامل لئلا تقوم له قائمة. طبعا بموافقة أميركية، أو بأقل تقدير، بتطنيشٍ أميركي قد تعوّدنا عليه.لم ينسَ صدام حسين هذه العملية الغادرة، وبقيت تؤجج نار الغضب والانتقام سنين وسنين. وفي واحدة من فلتات لسانه الكثيرة، أعلن في 2 نيسان – أبريل 1990 أن “العراق لا يحتاج لقنبلة نووية لأنه يملك الكيماوي المزدوج”. ثم أقسم قائلا: “والله لأخلّي النار تأكل (نص) إسرائيل، إذا حاولت على العراق”.

لم يهدّد صدام حسين إلا بحرق (نص) إسرائيل، ولكن حق عليه القول وكان من المغرقين. أما المرشد الإيراني فعلى مدى العشرات من السنين لا يهدد بمحو (نص) إسرائيل، فقط، بل بمحوها كلها، ولكن لم ترد أميركا ونوابها وشيوخها عليه بغير قنابل الكلام الفاضي ويومها قامت قيامة أميركا أكثر من قيامة إسرائيل، واشتد غضبُها، وشمّرت عن ساعديها لمعاقبته، فخشي الملك فهد اشتعال المنطقة فأوفد الأمير بندر بن سلطان لإجراء محادثات سريعة مع صدام حسين.

ويَذكر الأمير بندر في مذكراته أن صدام أكد له “أنه لن يهاجم إسرائيل”. وكأنه أراد منه أن يبلغ الرئيس الأميركي جورج بوش بأنه تهديده كلام وبس. فسارع الأمير بندر إلى مقابلة الرئيس الأميركي بوش، وحصل منه على وعد قاطع بأن “لا تقوم إسرائيل بهجمة وقائية” أخرى ضد العراق.شيء آخر. لأسباب مجهولة، وفور انتهاء الحرب العراقية – الإيرانية في 1988 توصلت الحكومة الأميركية، ديمقراطيةً وجمهورية، وقبل غزو الكويت، إلى قناعة زعمت أنها مؤكدة وراسخة بأن نظام صدام حسين يُصنّع أسلحة دمار شامل، ويدعم الإرهاب، وله علاقات سرية مع القاعدة وأنه يَأوي أبومصعب الزرقاوي.

ثم ثبت، بعد سنوات، وبالأدلة القاطعة، أن التهم الأميركية، كلها، كانت ملفّقة، وأن العراق كان خاليا من أسلحة دمار شامل، وأنه كان أشد أعداء القاعدة وغيرها من العصابات الإرهابية الأخرى ضراوة.وقد فضح الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب ذلك، واتهم أسلافه الجمهوريين، وقبلَهم الديمقراطيين، بالغباء.ومفيدٌ هنا أن أذكّركم بحمية الكونغرس، يومها، وسرعة اتفاق أعضائه من الحزبين على إعداد قانون (تحرير العراق) الذي نصَّ على أن “تكون سياسة الولايات المتحدة دعم الجهود الرامية إلى إزالة النظام الذي يرأسه صدام حسين”.

ثم وقع عليه الرئيس الديمقراطي بيل كلينتون في 31 تشرين الأول – أكتوبر 1998 ليصبح قانونا واجب التنفيذ. ثم جاء الرئيس الجمهوري بوش الابن فشمّر عن ساعديه وأقدم على غزو العراق لإسقاط النظام، تطبيقا لذلك القانون القرقوشي العجيب.وكما ترون. لم يهدّد صدام حسين إلا بحرق (نص) إسرائيل، ولكن حق عليه القول وكان من المغرقين. أما المرشد الإيراني فعلى مدى العشرات من السنين لا يهدد بمحو (نص) إسرائيل، فقط، بل بمحوها كلها، ولكن لم ترد أميركا ونوابها وشيوخها عليه بغير قنابل الكلام الفاضي.

وأكثر من ذلك. لقد كافأه بوش الابن بمنحه الدولة العراقية، بأرضها ومائها وسمائها وشعبها وتاريخها العريق، ليُخرّب فيها ما لم تُخربه جيوشه الجرارة، ولكي يتسلل منها إلى دول الجوار لاحتلالها واستعباد شعوبها ونهب خيراتها وزعزعة أمن المنطقة واستقرارها وتهديد السلم العالمي، حسب ما تردّد أميركا وحلفاؤها، دائما دون كلل ولا ملل.انتهاج سياسة العدوان والتطرف والإرهاب، والخداع والغدر، والتهديد بالقتل والاغتيال والاختطاف.. أفضل وسيلة لجعل الدول المارقة مُهابةً ومدللة ومطلوباً ودُها

ورغم استمرار نظام إيران الدموي العدواني المتمرد الشرير، سرّا وعلنا، في بناء مفاعلاته النووية، وإخفائه أسرارا ومعلومات عن الأمم المتحدة وفرق تفتيشها.ورغم انتقاله من حروب (أخذ الرهائن) إلى تفجير السفارات والقواعد والموانئ والجسور والمطارات، وتزويد وكلائه العراقيين والسوريين واللبنانيين واليمنيين بالصواريخ والمسيرات لتهديد الملاحة في الخليج العربي ومضيق هرمز والبحر الأحمر والأبيض.

 ورغم كل عمليات الاغتيال المحلية والإقليمية والدولية التي قام ويقوم بتدبيرها، ورغم تفجيره الطائرات المدنية، واعتدائه على البواخر التجارية في المياه الدولية، واستهدافه مواقع الطاقة والموانئ والمطارات في دول الجوار بالصواريخ والمسيَّرات.وبعد ثبوت إيوائه قادة القاعدة وداعش وتمويلهم واستخدامهم في عملياته الخارجية، أفاقت حميّة الكونغرس الأميركي، وغضب نوابُه الجمهوريون والديمقراطيون، فتقدموا بمشروع قانون (يندد)، نعم (يندد)، بالمسيَّرات الإيرانية، و(يدعو)، نعم (يدعو)، إلى التصدي لها، ويطالب الرئيس جو بايدن بإنتاج أنظمة لـ(مواجهة) هذه المسيَّرات.

يعني لو أجرينا مقارنة بسيطة بين كل ما فعله صدام حسين، في طول عمر نظامه الطويل، وبين سلوك النظام الإيراني الإرهابي النووي الميليشياوي الصاروخي الإقليمي الدولي الممتد من عام 1979 وحتى اليوم، يكون حَملا وديعا أمام نظامٍ سجلُه طويل وثقيل، عسكري ومدني، في العدوان والإرهاب والابتزاز، في إيران ذاتها أولا، وفي العراق وسوريا ولبنان واليمن وفلسطين والخليج العربي ومصر وليبيا وأوروبا وحتى أميركا نفسها.لكأنَّ انتهاج سياسة العدوان والتطرف والإرهاب، والخداع والغدر، والتهديد بالقتل والاغتيال والاختطاف، وتحدي القوانين والأعراف الدولية، والمتاجرة بالمفخخات والمسيرات والمخدرات، أفضل وسيلة لجعل الدول المارقة مُهابةً ومدللة ومطلوباً ودُها عند هذا المجتمع الدولي المنافق الذي يخون الأمانة، ويكذب حين يبكي على حقوق البشر وكراماتهم وحرياتهم، ولا يخاف ولا يستحي.

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *